كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

لَا يَصْلُحُ، قَالَ: يَسَعُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ، أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِالدَّلِيلِ، وَكَوْنُهُ أَفْقَهَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ يَرَى بِهِ التَّرْجِيحَ، أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَفْقَهَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ إقْرَارٌ إلَى الصَّوَابِ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، إنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَأَبَدًا يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: فِي حَدِّهِ زِيَادَةٌ لَا يَسْقُطُ بِهَا التَّعَارُضُ حَقِيقَةً؛ لِمَا عُلِمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِسِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ - نَظَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ ظَاهِرًا، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ - عَمِلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ، مَا لَمْ يَقْضِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيَنْكَشِفْ لَهُ وَجْهُ الْحَقِّ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ، قَضَى بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَكُونَنَّ خَائِفًا فِي اجْتِهَادِهِ، بَعْدَ مَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، فَلَا يَقُولَنَّ: إنِّي أَرَى، وَإِنِّي أَخَافُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ، يَمْنَعُ مِنْ إصَابَةِ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَرِيئًا جُسُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، حَتَّى لَوْ قَضَى مُجَازِفًا لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَدْرِي - يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَيُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا، وَحَفِظَهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ - عَمِلَ بِقَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ - عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ الْفِقْهِ فِي بَلَدِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا فَقِيهٌ وَاحِدٌ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، وَنَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ - مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَلَوْ قَضَى بِمَذْهَبِ خَصْمِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا، فَتَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ، وَقَضَى بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ يَرَى رَأْيَهُ بَاطِلًا - فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي اجْتِهَادِهِ كَذَا هَذَا.

وَلَوْ نَسِيَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ فَقَضَى بِشَيْءٍ، عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَذْهَبُ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ خَصْمِهِ؟ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا - تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَضَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ خَصْمِهِ، وَذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: أَنَّهُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ، لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مُقَصِّرٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ فَقَدْ قَصَّرَ، وَالْمُقَصِّرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ - خُصُوصًا عِنْدَ تَزَاحُمِ الْحَوَادِثِ - فَكَانَ مَعْذُورًا، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِي الْحُكْمِ، بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَكُونُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى النِّسْيَانِ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَضَى بِهِ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ.

وَإِنْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ - وَهِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ - بِرَأْيِهِ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، وَلَا يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ؛ قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ؛ وَبِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ هَذَا قَضَاءً مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَا اتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الرَّأْيِ الثَّانِي، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الِاجْتِهَادَ كَذَا هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ قَضَى فِيهَا بِخِلَافِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، فَسُئِلَ فَقَالَ: تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا نَقْضِي، وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا، فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا.

وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ بَائِنٌ، فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَعَزَمَ عَلَى

الصفحة 5