كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (اسم الجزء: 7)

الْآلَةِ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا؛ لِتَحَقُّقِ الْآلَةِ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا أَقَرَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ - فَهُوَ مِثْلُ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَزْنِيُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ؛ لَادَّعَى النِّكَاحَ أَوْ أَنْكَرَ الزِّنَا وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَضْرَةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ - صَحَّ الْإِقْرَارُ وَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ بِالْغَيْبَةِ لَيْسَ إلَّا الدَّعْوَى وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ وَلِهَذَا رُجِمَ مَاعِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُضُورِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا ثُمَّ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ يَعْرِفُهَا، فَحَضَرَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِمَّا أَنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ - تُحَدُّ أَيْضًا كَمَا حُدَّ الرَّجُلُ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، وَقَدْ أُقِيمَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَامُ الْآخَرُ.
وَإِنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنْ أَنْكَرَتْ الزِّنَا وَادَّعَتْ النِّكَاحَ أَوْ لَمْ تَدَّعِ، وَادَّعَتْ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَدَّعِ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَا أَعْرِفُهَا - صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ وَالْعِلْمُ بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُهَا - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ - خُصُوصًا فِي الزِّنَا، فَكَانَ إقْرَارُهُ إخْبَارًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَنَسَبَهَا وَذَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِقُصُورِ عِلْمِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَوْلُهُمْ: لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ يُورِثُ شُبْهَةً؛ لِجَوَازِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ امْرَأَةٌ لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ حِلٍّ أَوْ مِلْكٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَأَمَّا عَدَمُ التَّقَادُمِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ؟ أَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الشَّهَادَةِ.
(وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ فِي الشَّهَادَةِ تَمَكُّنُ التُّهْمَةِ وَالضَّغِينَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَشَرْطٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا، وَلِهَذَا لَا يَبْقَى مَعَ التَّقَادُمِ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَوْ لَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ، وَلَكِنَّ رِيحَهَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ - لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِ أَخٍ لَهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: بِئْسَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْتَ، لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْت عَلَيْهِ كَبِيرًا، ثُمَّ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ - فَاجْلِدُوهُ، وَأَفْتَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ.
وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، فَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ، ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّائِحَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ سَكْرَانًا - فَلَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ أَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ جِيءَ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا تَبْقَى الرَّائِحَةُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مِثْلِهِ عَادَةً - يُحَدُّ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الرَّائِحَةُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ فِيهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَإِذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ بِالزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي؛ يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ أَوْ يَطْرُدَهُ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ هَكَذَا فُعِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَاعِزٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ ".
أَيْ بِالزِّنَا، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا نُظِرَ فِي حَالِهِ أَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ أَمْ بِهِ آفَةٌ؟ هَكَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَاعِزٍ أَبِكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ جُنُونٌ؟ وَبَعَثَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِ.
فَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَعَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَعَنْ مَكَانِهِ وَعَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّهَادَةِ،

الصفحة 51