كتاب المنتقى شرح الموطإ (اسم الجزء: 7)

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَعْطُوا السَّائِلَ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا» )
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِي أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ إنَّمَا هِيَ بَيْرُحَاءَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالرَّاءِ وَاتَّفَقَ هُوَ وَأَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحُفَّاظِ عَلَى أَنَّ مَنْ رَفَعَ الرَّاءَ حَالَ الرَّفْعِ فَقَدْ غَلِطَ وَعَلَى ذَلِكَ كُنَّا نَقْرَؤُهُ عَلَى شُيُوخِ بَلَدِنَا وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَدْرَكْت أَهْلَ الْحِفْظِ وَالْعِلْمِ بِالْمَشْرِقِ وَهَذَا الْمَوْضِعُ يُعْرَفُ بِقَصْرِ بَنِي حَرْمَلَةَ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِفِنَاءِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا السَّلَامُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ» يُرِيدُ عَذْبًا وَهَذَا يَقْتَضِي تَبَسُّطَ الرَّجُلِ فِي مَالِ مَنْ يُعْرَفُ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِالدُّخُولِ إلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُ مَا يَخَافُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ قَالَ أَنَسٌ «فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يُنَالُ الْبِرُّ بِصَدَقَةِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ وَإِنَّ إنْفَاقَ أَحَبِّ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ أَقْرَبُ فِي نَيْلِ مَا يُحِبُّ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ جَاءَ بِفَرَسِهِ وَقَالَ هَذَا أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ إذَا سَمِعَ سَائِلًا يَقُولُ: اُعْطُوهُ سُكَّرًا فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ.
(فَصْلٌ) :
وَفِي هَذَا أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْإِنْفَاقِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] هُوَ الْأَجْرُ وَالذُّخْرُ الَّذِي رَجَاهُ بِمَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ أَرْجُو بِرَّهَا يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - ثَوَابَ بِرِّهَا وَأَرَادَ أَنْ يَضَعَهَا أَيْضًا فِي أَفْضَلِ وُجُوهِ الْإِنْفَاقِ وَاسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِإِرْشَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعَهَا حَيْثُ يَرَى فَإِنَّهُ لَا يَرَى لَهُ وَلَا يَخْتَارُ إلَّا الْأَفْضَلَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، وَقَوْلُهُ هِيَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا حَيْثُ شِئْت وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُطْلَقَةَ يَصِحُّ أَنْ تُصْرَفَ إلَى الْوُجُوهِ الَّتِي شَاءَ الْمُتَصَدِّقُ وَالْمُسْتَشَارُ فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ» بِالْيَاءِ مُعْجَمَةً هِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَجَمَاعَةِ الرُّوَاةِ وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ إنَّ كُلَّ مَا اُنْتُفِعَ بِهِ بَعْدَهُ فِي الدُّنْيَا رَاحَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فِي الْآخِرَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ مَالٌ يَرُوحُ عَلَيْهِ ثَوَابُهُ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ رَابِحٌ بِالْبَاءِ مُعْجَمَةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الرِّبْحِ وَالْغَنِيمَةِ لِثَوَابِهِ وَالِادِّخَارِ لِمُعَادِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرَى أَنْ يَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَقَارِبَهُ وَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَجْهٍ يُصْرَفُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَتَفْوِيتِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَكَانَا مِنْ أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَحْكَمُ.
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَعْطُوا السَّائِلَ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُعَاذٍ الْأَشْهَلِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقًا» ) .
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطُوا السَّائِلَ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ عَلَى فَرَسٍ لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَاحِبِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ لَا فَضْلَ فِيهِمَا وَهَذَا فِي الزَّكَاةِ وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَتُعْطَى لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَقَدْ يَكُونُ السَّائِلُ ابْنَ سَبِيلٍ وَيَكُونُ عَلَى فَرَسٍ فَيَلْزَمُ عَوْنُهُ عَلَى طَرِيقِهِ وَيَكُونُ غَازِيًا فَيَلْزَمُ أَنْ يُعَانَ عَلَى غَزْوِهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الصَّدَقَةِ أَنْ يُصْرَفَ إلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ جُمْلَةً بَلْ تُعْطَى مَنْ لَهُ الْبُلْغَةُ لِيُبْقِيَ بِهَا أَوْ لِيَبْلُغَ بِهَا حَالَ الْغِنَى عَلَى حَسْبِ مَا تَصَدَّقَ أَبُو طَلْحَةَ بِبَيْرُحَاءَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ

الصفحة 320