كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 7)

للتضحية والجهاد، فنجح كما ينجح -لو كان في مكانه- كل شعب عربي مسلم. نجح فقراؤه وأوساطه نجاحاً مُفرَداً ليس له نظير. لقد ضربوا -كما يقول الرياضيون- كل رقم قياسي وسبقوا كل سابق، حتى كان منهم من فعل مثل فعل الصحابة الأوّلين. نجح فقراؤه وأوساطه، أما الأغنياء فقد سقط أكثرهم في هذا الامتحان.
وهل يتصوّر إنسان أن يكون في روائع البذل والكرم أعجب مِن صُنع هذا الحمّال العجوز، الذي كدح حياته كلها يحمل الأثقال على ظهره والهموم في قلبه حتى جمع عشرة آلاف ليرة، جمعها في ستّين سنة فجاء يبذلها كلها للتسلّح.
صدقوني فإنني أدوّن وقائع لا أضرب في متاهات الخيال. لقد بذل راضياً في لحظة واحدة ثمرة تعب ستّين سنة.
وهاتان العجوزان اللتان لا تملكان من الدنيا إلاّ الدار التي تسكنان فيها، فلما سمعتا بالدعوة إلى البذل للتسلّح جاءتا بسند التمليك. بسند التمليك يا ناس! تبرّعتا بالدار التي لا تملكان غيرها.
أرجو أن تقفوا قليلاً لتتصوّروا مبلغ هذه التضحية. إنكم تعرفون أن النساء في العادة أكثر إمساكاً وأقبض يداً من الرجال، فإن كُنّ عجائز (والعفو من سيداتي القارئات العجائز) ازداد إمساكهن وحرصهن. وجرّب -إن شئتَ الدليل- أن تُقنع عجوزاً غنية أن تنزل لك عن مئة ليرة. إنك تجد صعوبة في إقناعها وربما عجزت عنه، فكيف جادت هاتان المرأتان بكل شيء؟ أيّ حماسة بالغة دفعَتهما إليه؟ إنه الإيمان يا سادة. إنهما ما بذلتا الدار،

الصفحة 12