كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 7)

عامّة هذه الأمة من لا يعرفه أحد من أمثالك وأشباهك).
ماذا أصف وماذا أعدّد، وهذه المواقف قد جلّت عن الحصر؟
هذا مشهد ما أظنّ أن في المشاهد ما هو أروع منه: رجل ضرير شحّاد جاء هو وابنه الطفل المشلول يتلمّس طريقه، يُرشِده هذا الولد المسكين الذي كان يجمع نفسه ثم يقفز على ساقَين نحيلتين مقوَّستين تحسبهما عَصَوَين (مثنّى عصا)، حتى إذا بلغ المنصّة وضع عليها سبع ليرات.
سبع ليرات فقط، ولكنها أعظم بسبع مرات، بسبعين مرة، من كل ما دفع الأغنياء وما أعطت المصارف والشركات. سبع ليرات هي طعامه ولباسه ودواؤه، هي حياته وحياة ولده جاد بها. لقد كانت جماهير الناس كلما شاهدت واحدة من هذه الروائع صفّقَت وهتفت حتى تحمرّ الأكُفّ من التصفيق وتُبَحّ الأصوات من الهتاف، ولكنها صمتت حيال هذا المشهد. صمتت حتى ليُسمَع في المكان الرحيب وَجيبُ القلوب، صمتت لأن الصمت هنا أدلّ على الإعجاب من كل هتاف.
وهذه أرملة لم يبقَ لها من زوجها الضابط في الجيش العثماني إلاّ سيفه العسكريّ، فلما كان أسبوع التسلّح جاءت به، فقطعت آخر ذكرى تربطها بمواضي أيامها، بعهد العزّ والغنى إذ الشمل مجتمع والدهر بسّام والعيش رغيد، وولّت مُدبرة تستقبل وحدها ليالي الفقر السوداء.
وهؤلاء المرضى الذين جاؤوا من أسرّتهم في مستشفى

الصفحة 15