كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 7)

كنا وأنا صغير نسكن في دار ما فيها إلاّ غرفتان علويتان تحتهما مجلس، وساحة صغيرة ليست كصحون الدور الكبيرة التي يغطّي أرضَها المرمرُ ويزيّن جدرانَها الرخامُ تعرش عليه الدوالي وأغصان الياسمين في وسطه البِركة يفور ماؤها ... لم يكن في دارنا شيء من ذلك، بل كانت داراً صغيرة من دور الفقراء هي من أوقاف جامع التوبة. سكنّاها ثلاثين سنة، وسكنها بعدنا لمّا انتقلنا منها الشيخ الكافي التونسي ثلاثين أخرى. كنت كلما نزلت صباحاً من الغرفة وجدت في مجلس أبي جماعة من المشايخ يحفّون به في أيديهم الكتب؛ يشرح هو ويستمعون هم. أذكر منهم الشيخ الفقيه الحنفي والقارئ المجوّد الشيخ عبد الوهاب الملقّب «دبس وزيت»، والشيخ الفقيه عبد الرزاق الحَفّار، وأخاه الأكبر الشيخ محمود الحفار، والشيخ محمود العَقّاد، والشيخ الداعية هاشم الخطيب، وأخاه الشيخ عبد الرحمن خطيب جامع بني أميّة، وإخواناً لهم ذهبوا كلهم إلى رحمة الله ولم يبقَ منهم إلاّ رجل في المدينة المنورة هتف بي من قريب ولم يُكتب لي لقاؤه، هو الشيخ عبد الحكيم عثمان، وأحسب أنه صاحب فندق في المدينة المنورة.
أقول إنني كلما صحوت وجدتهم، فأبكّر فأجدهم مهما بكرتُ حاضرين، لا أدري متى يجتمعون. فكنت أقول لنفسي: لعلّهم ينامون عندنا، يأتون بعد أن آوي إلى الفراش ويُمضون الليل كله، فإذا صحوت وجدتهم مجتمعين.
كانوا يقرؤون عليه هذا الدرس في الصباح، ثم يذهب طائفة منهم معه إلى جامع التوبة ويأتي آخرون ينضمّون إليهم، فيكون لهم درس آخر. ولست أحقّق الآن موضوع ذلك الدرس

الصفحة 21