كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 17)

"""""" صفحة رقم 206 """"""
فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبى بلتعة إلى المشركين ، فخذوه منها ، وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فآضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها كتاب ، فبحثوها ، وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضى الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذبنا ، وسل سيفه ، وقال لها : أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ، ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها قد خبأته في شعرها ، فخلوا سبيلها ، ولم يتعرضوا لما معها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأرسل إلى حاطب فأتاه ، فقال له : هل تعرف الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله ، ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت غريبا فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغنى عنهم شيئا ؛ فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعذره ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول : دعني أضرب عنق هذا المنافق ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وما يدر بك يا عمر ، لعل الله قد آطلع على أهل بدر يوم بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم يوم بدر .
وأنزل الله عز وجل في شأن حاطب ومكاتبته المشركين قوله تعالى : " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، " قال : أي من مكة لأن آمنتم بالله ربكم ؛ قال : في الكلام تقديم وتأخير ، ونظم الآية : " لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، " ثم قال تعالى : " إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وآبتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ، " ثم قال تعالى : " إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون " قال : يثقفوكم يروكم ويظهروا ، ويبسطوا إليكم أيديهم أي بالقتل ، وألسنتهم بالسوء أي بالشتم ، وودوا لو تكفرون فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادونكم .
قوله تعالى : " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير " قال : معنى الآية : لا تدعونكم قراباتكم ولا أولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ، وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم ،

الصفحة 206