كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 17)

"""""" صفحة رقم 257 """"""
فلم أقض شيئا ، ثم غدوت ، ثم رجعت ، ولم أقض شيئا ، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفرط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدر لي ذلك ، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق ، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا رسول الله ، ما علمت عليه إلا خيرا ، فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . قال كعب بن مالك : فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همى ، وطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا ، وآستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أظل قادما راح عني الباطل ، وعرفت أني لم أخرج منه أبدا بشئ فيه كذب ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين ، ثم يجلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علانيتهم وبايعهم وآستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، فجئته ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال : تعال ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه ، فقال لي : ما خلفك ؟ ألم تكن قد آبتعت ظهرك ؟ فقلت : بلى والله ، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبي الله ، لا والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك ، " فقمت وثار رجال من بني سلمة فآتبعوني ، فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون آعتذرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما آعتذر إليه

الصفحة 257