كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
أولو العزم من الرسل " . وقد روى في حلمه واحتماله وعفوه وصبره أحاديث كثيرة وقصص مشهورة ، قد تقدم منها في أخباره ، في أثناء هذه السيرة جملة كافية ونحن نشير الآن في هذا الموضع إليها ، وننبه في هذه الترجمة عليها ، منها قصة أحدٍ حين ناله من أذى كفار قريش ما ناله مما قدمنا ذكره ، فشق ذلك على أصحابه ، وقالوا : يا رسول الله ، لو دعوت عليهم ، فقال : " إني لم أبعث لعّانا ولكني بعثت داعياً ورحمةً اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه قال في بعض كلامه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد دعا نوح على قومه فقال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا " ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطيء ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيرا ، فقلت : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " . ومنها قصتا غورث بن الحارث ، ودعثور بن الحارث حين أرادا أن يفتكا به ، وأظفره الله بهما ، وأمكنه منهما فعفا عنهما ، كما تقدم ذكر ذلك في غزوتي غطفان وذات الرقاع ، ومنها عفو عن الذين هبطوا عليه في عمرة الحديبية ، وأرادوا قتله فأخذوا فأعتقهم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنها صفحه عن قريش حين أمكنه الله منهم يوم الفتح ، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم ؛ لما تقدم من أذاهم له ، فما زاد على أن عفا وصفح ، وقال : " ما تقولون إني فاعل بكم " : خيرا ؛ أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم ، فقال : " أقول كما قال أخي يوسف " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . ومما لم نذكره فما أتينا عليه من سيرته ( صلى الله عليه وسلم ) ما ورد في الحديث الصحيح من قول الرجل له : اعدل إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . فلم يزده ( صلى الله عليه وسلم ) في جوابه إلا أن بين له ما جهله ، ووعظ نفسه وذكرها بما قال له ، فقال : " ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل " ونهى ما أراد قتله من أصحابه . ومنه ما روى عن أنس رضي الله عنه قال : كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه . ثم قال : يا محمد ، أحمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك ، فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : " المال مال الله وأنا عبده " ثم قال : " ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي " ؟ قال : لا ، قال " لم " ؟ قال : لأنك لا تكافيء بالسيئة السيئة ، فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيرٌ وعلى الآخر تمرٌ .