كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)

"""""" صفحة رقم 169 """"""
ومنه خبر زيد بن سعنة حين أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل إسلامه ، وكان من أحبار اليهود ، فجاءه يتقاضاه دينا عليه ، فجبذ ثوبه على منكبه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له ، ثم قال : إنك يا بني عبد المطلب مطل فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشدد له في القول ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبتسم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي " ثم قال : " لقد بقي من أجله ثلاث " وأمر عمر بقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روعه ، فكان سبب إسلامه ؛ وذلك أنه كان يقول : ما بقي من علامات النبوّة شيء إلا وقد عرفتها في محمد إلا اثنتين ؟ لم أخبرهما ؛ يسبق حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما ؛ فاختبرته بها فوجدته كما وصف . والحديث عن حلمه وصبره وعفوه كثير ؛ روى عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله ، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما ضرب خادما ولا امرأة ، وجيء إليه برجل فقيل : هذا أراد أن يقتلك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لن تراع لن تراع ولو أردت ذلك لم تسلّط عليّ " ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته ( صلى الله عليه وسلم )
ومعانيها متقاربة ، وقد فرق بعضهم بينها بفروق فجعلوا الكرم : الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه - وسموه أيضا حرية - وهو ضد النذالة . والسماحة : التجافي عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفسه ، وهو ضد الشكاسة والسخاء : سهولة الإنفاق وتجنب اكتساب ما لا يحمد ، وهو الجود ، وهو ضد التقتير ؛ فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك بالمحل الأرفع بهذا جاءت الأحاديث الصحيحة ، منها ما رويناه في صحيح البخاري عن ابن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : ما سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا فقال لا . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل عليهما السلام أجود بالخير من الريح المرسلة . وعن أنس أن رجلا سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاه غنما بين جبلين ، فرجع إلى بلده وقال : أسلموا فإن محمد يعطي عطاء من لا يخشى فاقة . وقد ذكرنا ما أعطاه ( صلى الله عليه وسلم ) من غنائم هوازن .
وأخباره ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك كثيرة ، وعطاياه فاشية ، لو استقصيناها لطال بها التأليف ، وكان لا يبيت في بيته دينارٌ ولا

الصفحة 169