كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
ثالثا . وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه ويقول " خلوا ظهري للملائكة " . وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم ، ويكرم كريم كلّ قومٍ ويولّيه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم ، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه ، يتفقّد أصحابه ، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء ، هكذا وصفه ابن أبي هالة ، قال : وكان دائم البشر سهل الخلق ليّن الجانب ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب ولا فحّاش ، ولا عيّاب ولا مدّاح ، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤنس منه . وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ، ولو كانت كراعا ، ويكافيء عليها ، قال أنس : خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ ، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ، ولا لشيء تركته لم تركته ، ومن رواية أخرى عنه قال : خدمته نحوا من عشر سنين فوالله ما صحبته في سفر ولا حضر لأخدمه إلا وكانت خدمته لي أكثر من خدمتي له ، وما قال لي أفٍّ قطّ ، ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا ، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا ؟ . وكان ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل : يا رسول الله ، عليّ ذبحها ، وقال آخر : عليّ سلخها ، وقال آخر : عليّ طبخها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " وعليّ جمع الحطب " قالوا : يا رسول الله ، نحن نكفيك ، فقال : " علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه " وقام فجمع الحطب . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال : " لبيك " وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ، ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمة والمسكين ، ويعود المرضي في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر ، قال أنس : ما التقم أحد أذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحيّ رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ ، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على أحد ، يكرم من يدخل عليه ، وربما بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ، ويكني أصحابه ،