كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)

"""""" صفحة رقم 175 """"""
وأما تواضعه ( صلى الله عليه وسلم ) مع علوّ منصبه ورفعة مرتبته
فكان ( صلى الله عليه وسلم ) أشد الناس تواضعاً ، وأقلهم كبراً ، وقد جاء أنه خيّر بين أن يكون نبيّاً ملكاً ، أو نبيّاً عبداً ، فاختار أن يكون نبياً عبداً ، فقال له إسرافيل عند ذلك : فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من تنشق الأرض عنه ، وأول شافع . ومما رويناه بسند متصل عن أبي أمامة قال : خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوكئاً على عصاً ، فقمنا له فقال : " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً " . وقال : " إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد " وكان يركب الحمار ، ويردف خلفه ، ويعود المساكين ، ويجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد ، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم ، حيث ما انتهى به المجلس جلس ، وعن أنس : أن امرأة كان في عقلها شيءٌ جاءته فقالت : إن لي إليك حاجة ، قال : " اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك " قال : فجلست فجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليها حتى فرغت من حاجتها . قال أنس : حجّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على رحل رثٍّ وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم ، فقال : " اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة " . هذا وقد أهدى في حجة ذلك مائة بدنة ، ولما فتحت عليه مكة دخلها وقد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد يمسّ قادمته تواضعاً لله تعالى .
ومن تواضعه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لما دخل مكة جاءه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأبيه ليسلم فقال : " لم عنّيت الشيخ يا أبا بكر ألا تركته حتى أكون أنا آتيه في منزله " وقد تقدم ذكر ذلك في الفتح . وعن عائشة والحسن وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم ، في صفته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبعضهم يزيد على بعض ، أنه كان ( صلى الله عليه وسلم ) في بيته في مهنة أهله ، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويرقّع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويخدم نفسه ، ويقمّ البيت ، ويعقل البعير ، ويعلف ناضحه ، ويأكل مع الخادم ، ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق . وعن أنس : أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها . ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له : " هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد " . وعن

الصفحة 175