كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، ويبدأ من لقيه بالسلام .
قلت : صف لي منطقة ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متواصل الأحزان ، دائرة الفكرة ، وليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فصلا لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثا ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم شيئا لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه ، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا يتنصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام . قال الحسن : فكتمتها الحسين بن علي زمانا ، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومخرجه ومجلسه وشكله ، فلم يدع منه شيئا ، قال الحسين : سألت أبي - عليه السلام - عن دخول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك ، فكان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزء لله تعالى ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه .
ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، ولا يدخر عنهم شيئا ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، قسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : " ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة " لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره . قال في حديث سفيان بن وكيع : " يدخلون روادا ، ولا يتفرقون إلا عن ذواق ، ويخرجون أدلة " ، يعني فقهاء ، قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان