كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)

"""""" صفحة رقم 184 """"""
يصنع فيه ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ، ويؤلفهم ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ويولّيه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره وخلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسّن الحسن ويصوّبه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا ؛ لكل حال عنده عتادٌ ، لا يقصّر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحةً ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساةً ومؤازرة .
فسألته عن مجلسه عما كان يصنع فيه ، فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، من سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسورٍ من القول ، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى . وفي الرواية الأخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتاته - وهذه الكلمة من غير الروايتين - يتعاطفون ، بالتقوى متواضعين ، يوقّرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ، ويرفدون ذا الحاجة ويرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته ( صلى الله عليه وسلم ) في جلسائه ، فقال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخّاب ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مدّاح ، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ولا يعيّره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، وإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أوّلهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويعجب مما يعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ، ويقول : " إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه " ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام .
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع .

الصفحة 184