كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)

"""""" صفحة رقم 201 """"""
وأحجموا عن مماثلته ، ورضوا بقولهم " قلوبنا غلفٌ " و " في أكنةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ " . و " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " . واعترف فصحاؤهم عند سماعه أنه ليس من كلام البشر ، كالوليد بن المغيرة وعتبة ابن ربيعة ، على ما قدمنا ذكر ذلك .
الوجه الثاني من إعجازه - صورة نظمه العجيب ، المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها ، وسجعها ورجزها وهزجها وقريضها ، ومبسوطها ومقبوضها ، كما قال الوليد بن المغيرة لقريش عند اجتماعهم كما قدمناه ، ومن ذلك جمعه بين الدليل والمدلول ، وذلك أنه احتج بنظم القرآن ، وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته ، وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معاً من كلام واحد .
الوجه الثالث من إعجازه - ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات ، وما لم يكن ولم يقع فوجد ، كما جاء في قوله تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " . وقوله في الروم : " وهم من بعد غلبهم سيغلبون " . وقوله : " ليظهره على الدين كله " وقوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " الآية . وقوله : " إذا جاء نصر الله والفتح " السورة ، فكان جميع ذلك : فتح الله مكة ، وغلبت الروم فارس ، وأظهر الله روسوله ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، واستخلف الله المؤمنين في الأرض ، ومكن دينهم وملكهم أقصى المشارق والمغارب ، وما فيه من الإخبار بحال المنافقين واليهود ، وكشف أسرارهم ، وغير ذلك .
الوجه الرابع - ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة والشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا من مارس العلوم من أهل الكتاب ، واطلع على الكتب المنزلة القديمة ، كقصص النبياء مع قومهم ، وخبر موسى والخضر وذي القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق ، وغير ذلك مما في كتبهم القديمة مما اعترف بصحته العلماء من أحبار يهود ، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه مع عدم إنكارهم لصحته ، قال الله تعالى : " يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثيرٍ " .

الصفحة 201