كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)

"""""" صفحة رقم 52 """"""
كان بعد الغد مرّ بي وقد يئست ، فأشار إليّ رجلٌ من خلفة أن قومي فكلّميه ، قالت : فقمت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ ، منّ الله عليك . فقال : " قد فعلت فلا تعجلي بخروجٍ حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني " فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن كلّميه ، فقيل عليّ بن أبي طالب ، قالت : فأقمت حتى قدم ركب من بليٍّ أو قضاعة ، قالت : وإنما أريد أن آتي أخي بالشام ، فجئت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله ، قد قدم رهطٌ من قومي ، لي فيهم ثقة وبلاغٌ ، قالت : فكساني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحملني وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام ، قال عديّ : فو الله إنّي لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إليّ تؤمّنا ، قال : قلت ابنة حاتم ، فإذا هي هي ، فلما وقفت عليّ انسلخت تقول : القاطع الظّالم ، احتملت بأهلك و ولدك ، وتركت بقيّة والديك عورتك قال : قلت : أي أخيّة لا تقولي إلاّ خيرا ، فو الله ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت . قالت : ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟ قالت : أرى والله أن نلحق به سريعا ، فإن يكن الرّجل نبيا فللسّابق إليه فضله ، وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت . قال : قلت والله إن هذا الرّأي . فخرجت حتى أقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده ، فسلمت عليه فقال : " من الرجل " ؟ فقلت : عدي بن حاتم . فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فانطلق بي إلى بيته ، فو الله إنه لعامدٌ بي إليه إذ لقيته امرأةٌ ضعيفة كسيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك . قال : ثم مضى حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدمٍ محشوّة ليفًا فقذفها إليّ فقال : " اجلس على هذه " قلت : بل أنت فاجلس عليها ، قال : " بل أنت " فجلست عليها ، وجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالأرض ، فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك . ثم قال : " إيه يا عديّ بن حاتم ألم تك ركوسيا ؟ " قلت : بلى ، قال : " أولم تك تسير في قومك بالمرباع " ؟ قلت : بلى ؛ قال : " فإنّ ذلك لم يك يحلّ لك في دينك " . قال : قلت أجل والله ، وعرفت أنه نبيّ مرسل يعلم ما يجهل ، ثم قال : " لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدّين ما ترى من حاجتهم ، فو الله ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ

الصفحة 52