كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 18)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
تعس الأبعد ، يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست . فقال : ولم يا أخي ؟ قال : والله إنّه للنبيّ الذي كنا ننتظره . فقال له كوز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ؟ قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ؛ شرّفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلاّ خلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى . فأضمر عليها منه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك ، فكان يحدّث عنه هذا الحديث .
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام : وبلغني أنّ رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبًا عندهم ، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره ، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها ، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يمشي فعثر ، فقال ابنه : تعس الأبعد - يريد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) - فقال له أبوه : لا تفعل فإنه نبيّ واسمه في الوضائع - يعني الكتب - فلما مات لم يكن لابنه همّة إلا أن كسر الخواتم ، فوجد في الكتب ذكر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأسلم وحسن إسلامه فحجّ ، وهو الذي يقول :
إليك تعدو قلقًا وضينها
قال ابن إسحق : ولما قدموا صلّوا في المسجد نحوالشّرق ، وكلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم الثلاثة نفر : العاقب ، والسيّد ، وأبو حارثة ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف من أمرهم ، يقولون في المسيح : هو الله ، ويقولون : هو ابن الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، فهم يحتجّون في قولهم : هو الله بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ من الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا ، ويحتجون في قولهم أنه ابن الله بأنهم يقولون : لم يكن له أبٌ يعلم ، وقد تكلم في المهد ، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله . ويحتجون في قولهم أنه ثالث ثلاثة ، بقول الله فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فيقولون : لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت ، ولكنه هو ، وعيسى ، ومريم . قال : فلما كلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحبران قال لهما " أسلما " ، قالا : قد أسلمنا قبلك . قال : " كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعا كما لله ولدًا ، وعبادتكما الصّليب ، وأكلكما الخنزير " قالا : فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يجبهما ، فأنزل الله تعالى عليه في اختلاف أمرهم كلّه صدر سورة آل عمران ، إلى بضع وثمانين آية منها .