كتاب نيل الأوطار (اسم الجزء: 8)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّعَقُّبُ. فَيُجَابُ بِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ هُوَ الْحُكْمُ لَا الْإِفْتَاءُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِلْمَجْهُولِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِفْتَاءِ بَطَلَتْ دَعْوَى أَنَّهُ حَكَمَ بِعِلْمِهِ أَنَّهَا زَوْجَةٌ. وَقَدْ تَعَقَّبَ الْحَافِظُ كَلَامَ ابْنِ الْمُنِيرِ فَقَالَ: وَمَا ادَّعَى نَفْيَهُ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْأَخْذِ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى صِدْقِهَا مُمْكِنٌ بِالْوَحْيِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ عِلْمٍ
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ يَأْمُرُ الْمُسْتَفْتِيَ بِمَا هُوَ الْحَقُّ لَدَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْمَنْعِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ " فَأَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ " وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَعْلَمُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى السَّمَاعِ لَا يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِهِ طَرِيقًا لِلْحُكْمِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالُ إنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلْمُجَوِّزِينَ أَظْهَرُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَقْوَى مِنْ السَّمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بُطْلَانُ مَا سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُ بُطْلَانُ مَا يَعْلَمُهُ، فَفَحْوَى الْخِطَابِ تَقْتَضِي جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَانِعُونَ حَدِيثُ " شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ " وَفِي لَفْظٍ " وَلَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ " وَيُجَابُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ " فَلَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَلِمَ بِالْمُحِقِّ مِنْهُمَا مِنْ الْمُبْطِلِ حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ لَلْمُدَّعِي مِنْ الْمُنْكِرِ إلَّا الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَلْمُدَّعِي بُرْهَانٌ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَتْ الْأُمُورُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّارِعُ أَسْبَابًا لِلْحُكْمِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِمَا أُمُورًا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهَا لَا يَسُوغُ لَنَا الْحُكْمُ إلَّا بِهَا، وَإِنْ حَصَلَ لَنَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بِيَقِينٍ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَالتَّقَيُّدُ بِهَا وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِغَيْرِهَا فِي الْقَضَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُ الْحَاكِمُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ وَالْمُصِيبِ مِنْ الْمُخْطِئِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ حُصُولُ مَا يَحْصُلُ لِلْحَاكِمِ بِهَا مِنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ وَأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَكَانَ الذِّكْرُ لَهَا لِكَوْنِهَا طَرَائِقَ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ وَالشُّهُودِ لَا تَبْلُغُ إلَى مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ بِعِلْمِهِ غَيْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ يَمِينٍ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ إنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» فَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْحُكْمِ صَوَابًا وَتَجْوِيزِ كَوْنِهِ خَطَأً فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ صَوَابٌ لَاسْتِنَادِهِ إلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ
وَلَا يَخْفَى رُجْحَانُ هَذَا وَقُوَّتُهُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِهِ قَدْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ وَالْحَقِّ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ اسْتِحْلَافِ الْمُنْكِرِ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكِنْدِيِّ: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ فِي الْأَصْلِ مَا بِهِ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ وَيَتَّضِحُ. وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قَبُولَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَالْحُكْمِ بِهَا. لِأَنَّا نَقُولُ: إذَا كَانَ الْقَضَاءُ

الصفحة 332