كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

وأخذت الأندلس تخطو خطوات واسعة فى الحضارة المادية، وساعدها على ذلك ثراؤها لوفرة الأنهار فيها والثمار والضّرع والزرع والبساتين وكثرة المعادن، ولا حظ ذلك كل من زاروها من رحالة المشرق فقالوا إن خيراتها كثيرة وليس بها شحاذ ولا متسول، وهيأ هذا الثراء فيها وما كان يجنيه حكامها من الضرائب للتفنن فى بناء القصور منذ عهد عبد الرحمن الأوسط وابنه محمد حتى إذا كنا فى عهد عبد الرحمن الناصر وجدناه لا يبنى قصرا أو قصورا متعددة فحسب، بل يبنى مدينة الزهراء بجوار قرطبة على سفح جبل العروس وقد ظل عشرة آلاف عامل ينهضون ببنائها لمدة خمسة وعشرين عاما، وكانت الطبقة الدنيا فيها بساتين وحدائق، وفى الطبقة الوسطى دور الموظفين، وفى الطبقة العليا قصره وقاعته الكبيرة المزدانة بأعمدة الرخام وحليّها الذهبية وجوهرة كبيرة تتلألأ فى وسطها سوى ما كان بالمجلس المعروف بمجلس المؤنس من تماثيل لحيوانات من الذهب الخالص. وكان القصر يمتد طولا فى نحو ثلاثة آلاف ذراع وعرضا فى نحو ألف وخمسمائة، وكان به نحو أربعة آلاف عمود من الرخام. ويتضح ثراء الحكم الأموى وأبهته فى بناء المسجد الجامع بقرطبة. ولا تزال روعته ماثلة إلى اليوم على الرغم مما اقتطع منه لكاتدرائية وكنيسة، وقد استغرق وصف روعة المعمار فيه نحو عشرين صحيفة فى كتاب الفن العربى فى إسبانيا وصقلية لفون (¬1) شاك. وبنى المنصور بن أبى عامر حاجب الخليفة هشام المؤيد بدوره مدينة الزاهرة. ولا يتضح ثراء الحكم الأموى فى بناء الجامع الكبير الذى ظل يعنى الحكام الأمويون حتى عهد المنصور بزخرفته والاتساع به ولا فى بناء القصور وبناء المدن فحسب، فمن أهم صوره الهدايا الفاخرة التى ذكر ابن حيان أن عبد الرحمن الناصر (¬2) كان يرسل بها إلى أمراء المغرب مثل هديته إلى موسى بن أبى العافية سنة 322 وما كان بها من قطع البزّ العجيب الصنعة والطرف الأنيقة من ثياب وغير ثياب وطيب وغير طيب. وذكر ابن خلدون فى ترجمته للناصر هدية (¬3) وزيره أحمد بن عبد الملك بن شهيد وما حمل إليه فيها من الذهب، وقد بلغ خمسمائة ألف مثقال وحمل من التبر مثله، سوى كميات كبيرة من سبائك الفضة والعود الهندى والمسك الذكى والعنبر والكافور والثياب الحريرية المرقومة بالذهب والفراء الثمين والملاحف المذهبة للخيل والأبسطة، وأيضا سوى عشرين جارية بكسوتهن وزينتهن وأربعين وصيفا، وسوى ما لا يكاد يحصى من السلاح وعتاق الخيل الكريمة.
¬_________
(¬1) انظر الكتاب بترجمة الدكتور الطاهر مكى (طبع دار المعارف) ص 22.
(¬2) المقتبس 5/ 238.
(¬3) تاريخ ابن خلدون 4/ 138. وانظر أزهار الرياض 2/ 261.

الصفحة 48