كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

لصناعة الأساطيل وازدهار صناعة الأثاث، واشتهرت طرطوشة بصنوبر أحمر صافى البشرة، ومن عيدانه اتّخذ خشب المسجد الجامع بقرطبة. وكانت المعادن كثيرة، ومن أهمها معدن الزئبق فى شمالى قرطبة، ويقول الإدريسى فى القرن السادس الهجرى إنه كان يعمل فيه ما يزيد على ألف عامل، وازدهرت صناعات الحلى والأوانى والحقاق والطرف المعدنية والبرونزية والفضية والملابس والثياب الحريرية، ويقول الإدريسى إنه رأى فى المرّية ثمانمائة دار طراز للحرير تصنع فيها الحلل والثياب والستائر والبسط. ويقول ابن خلدون فى مقدمته عن الأندلس وصناعاتها وقد نزلها فى أواخر القرن الثامن الهجرى: «إنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة فى جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمبانى والطبخ وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص وتنضيد الفرش والرياش وحسن الترتيب والأوضاع فى بناء القصور وصوغ الآنية من المعادن والخزف وجميع المواعين وسائر الصنائع التى يدعو إليها الترف وعوائده فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، وهم على حصة موفورة من ذلك وحظ متميز بين جميع الأمصار لما قدمناه من رسوخ الحضارة أيام الدولة الأموية ودول الطوائف» (¬1). ومن أكبر الأدلة على استمرار ازدهار الصناعات ومظاهر الحضارة المادية فى الأندلس قصر الحمراء الذى شاده بغرناطة أمراؤها فى الحقب العربية الأخيرة بها، وليس قصرا فحسب بل معرضا خلابا لما وصلت إليه الحضارة الأندلسية من ازدهار، وبه يحيط سور يعلوه شرف للحراسة، وتلقاك بداخله جنة العريف، وهى حديقة كأنها اقتطعت من الفردوس بنافوراتها ومياهها المتدفقة وأشجار البرتقال والريحان بها والأزهار الأرجة، ومن ورائها القصر الفخم وقد فرشت أرضه بالرخام وازدانت حيطان قاعاته وردهاته وغرفه بالآيات القرآنية والأشعار وآلاف الزخارف، وتلقاك أسود فى قاعة حاملة حوضا من الماء ينسكب من أفواهها، وقد استغرق وصف هذا القصر وجنته فى كتاب «الفن العربى فى إسبانيا وصقلية» لفون شاك أكثر من خمسين صفحة، وإنه ليقول وقد أخذت روعته بلبه:
«سعيد من يستطيع زيارة الحمراء إذ سوف تستيقظ فى روحه الأحلام المكبوتة وتحيا الآمال الضائعة (¬2)».
¬_________
(¬1) المقدمة (تحقيق د. على عبد الواحد وافى) ص 938 وما بعدها.
(¬2) انظر الفن العربى فى إسبانيا وصقلية لفون شاك ص 182.

الصفحة 50