كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

الغناء
وكان الغناء يشيع فى الأندلس منذ وفود زرياب غلام إسحق الموصلى على الأمير عبد الرحمن الأوسط واحتفاله به احتفالا عظيما، إذ جعل له راتبا مائتى دينار فى الشهر وأقطعه من الدور والضياع ما يقدر بأربعين ألف دينار غير صلات سنية. وأقام زرياب فى قرطبة معهدا يتدرب فيه الفتيان والفتيات على الغناء، واشتهر بأنه أضاف إلى أوتار العود وترا خامسا اخترع له مضرابا من قوادم النسر (¬1)، وجعل للغناء تقاليد انفردت بها الأندلس فكان يبدأ بالنشيد ويخرج منه إلى البسيط ويختم بالمحركات والأهازيج (¬2)، وينقل التيفاشى عن ابن سعيد أنه لم يكن بالأندلس قبله سوى طريقة حداة العرب وترانيم الكنائس دون قانون (¬3) فيها أى دون رقم (نوت) موسيقية. وزرياب بذلك يفتتح حركة الغناء والموسيقى فى الأندلس. وخرّج زرياب كثيرين من الشباب والجوارى منهن منفعة أهداها إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط ومنهن بنانة وقلم وعلم وشفاء. وأخذ الغناء فى الأندلس يزدهر بعده وممن أتقنوه عباس بن فرناس المتوفى سنة 274 واتسع التعلق به، حتى أصبح الشغل الشاغل لكثير من المدن، ويحكى التجيبى شارح أشعار كتاب المختار من شعر بشار للخالديين فى مقدمة شرحه أنه بات ليلة فى سنة 406 بمالقة ساهرا لما كان يخفق حوله من أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية. وكل بلاد الأندلس كانت مثل مالقة عزفا وغناء، واتسعت الموجة زمن أمراء الطوائف وخاصة فى إشبيلية وطليطلة. وممن اشتهر بعد زمنهم بجودة التلحين أبو الصلت أمية بن عبد العزيز، وهو الذى أخذ أهل إفريقية الألحان الأندلسية عنه، وكان يعاصره الفيلسوف ابن باجة وكان إمام الأندلس الأعظم فى الموسيقى والألحان، وخلفه عليها تلميذه أبو عامر بن الحمارة وكان يصنع عود الغناء بيده وينظم الشعر ويلحّنه عليه ويغنى (¬4) به، شأن المغنين الأوربيين المعاصرين الذين ينظمون الشعر ويلحنونه ويغنونه. ويبدو أنه كان يقترن الرقص بالغناء منذ زرياب، وقد رقى بدوره فنونا من الرقى حتى لنجد ابن كسرى المالقى المتوفى سنة 603 للهجرة يصف حركات راقصة تسمى نزهة على هذا النمط (¬5):
¬_________
(¬1) النفح 3/ 126.
(¬2) النفح 3/ 128.
(¬3) انظر كتاب ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية (طبع تونس) 2/ 179.
(¬4) المغرب 2/ 120.
(¬5) تحفة القادم نشر الفريد البستانى بمجلة المشرق ببيروت العدد 40، 41 سنة 1947 م رقم 57.

الصفحة 51