كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

دائما ويذكرونهم بالله واليوم والآخر وأنهم معروضون على ربهم يوم القيامة فإما إلى الجنة والنعيم، وإما إلى النار والجحيم. وزكاها أيضا أن الحكام الأمويين كانوا يلتزمون الصلاة فى المسجد الجامع وكانوا يأخذون أبناءهم ونساءهم بآداب الإسلام والقيام بفزائضه وواجباته، ومنذ عبد الرحمن الأوسط كانت تعنى زوجاتهم ببناء المساجد على نحو ما كانوا يعنون هم أنفسهم وكنّ يقفن بعض أموالهن للجهاد فى سبيل الله، واشتهرت طروب زوجة عبد الرحمن الأوسط ببنائها مسجدا فى الربض الغربى من قرطبة، واشتهرت ابنته البهاء بزهدها ونسكها وكتابتها لمصاحف وقفتها فى مسجد لها بين مساجد الربض الغربى.
ومن أوائل من يلقانا من زهاد الأندلس وعبّادها أيوب البلّوطى، ويروى أن السماء شحّت بمطرها لأول عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ‍) وفزع الناس إلى قاضيه مسرور بن محمد كى يصلى بهم صلاة الاستسقاء لما يعرفون من صلاحه، فلباهم حتى إذا وقف ليخطب خطبة الاستسقاء نادى: يا أيوب البلوطى! عزمت عليك حيث كنت لتقومنّ، فلم يقم إلا بعد أن أقسم عليه فى الثالثة، وقال حين قام: يا هذا أشهرتنى أما كنت أدعو حيث أنا؟ ثم رفع القاضى رأسه فقال: اللهم إنا نستشفع إليك بوليّك هذا، وألحّ بالدعاء، وكثر الضجيج والبكاء، فلم ينصرفوا إلا وأحذيتهم فى أيديهم من كثرة المطر. وطلب أيوب بعد ذلك فلم يوقف له على أثر. ويدل هذا الخبر على أنه كان لأهل الأندلس اعتقاد حسن فى النسّاك الزهاد. ومن كان يفرط فى زهده ونسكه كانوا يظنون أنه من أولياء الله وأنه مجاب الدعوة. وكان يعاصر أيوب إمام فى المذهب المالكى هو عيسى بن دينار المتوفى سنة 212 وكان فى الذروة من العبادة والزهد، ويقال إنه صلّى أربعين سنة الصبح بصلاة العتمة أو العشاء. واشتهر بالزهد من قضاة عبد الرحمن الأوسط معاذ بن عثمان المتوفى سنة 234 وقيل إنه كان مجاب الدعوة. ومن الزهاد أيام عبد الرحمن الناصر أبو وهب عبد الرحمن العباسى المتوفى سنة 344 وسنعرض له بين شعراء الزهد. ويلقانا فى زمن الفتنة الزاهد عبد الرحمن بن مروان القنازعى المتوفى سنة 413 نسب إلى ما كان يكتفى به لسد رمقه من صنع القنازع التى كان يتخذها الأندلسيون لغطاء رءوسهم مما يشبه القلنسوة، وكان صوّام النهار قوّام الليل راضيا بالقليل من كسبه، ولم ينحطّ يوما إلى مسألة أحد. ومن الزهاد فى عصر أمراء الطوائف الفقيه المحدّث ابن الطلاع، واشتهر بأنه لقى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، فوعظه ووبّخه على حياته الماجنة اللاهية. ويؤلف ابن بشكوال المتوفى سنة 578 كتابا فى زهاد الأندلس وأئمتها، وتظل نزعة الزهد حية مطردة فيها حتى خروج الإسلام والمسلمين

الصفحة 56