كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

تحفيظها بعض النصوص من الأشعار والرسائل البارعة، وينوّه ابن خلدون بتعليم الناشئة فى الأندلس قائلا: «وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن فى التعليم وكثرة رواية الشعر والرسائل ومدارسة العربية (النحو) من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف فى اللسان العربى» (¬1). وابن خلدون يثنى-بذلك-على مؤدبى الأندلس وأنهم استطاعوا أن يغرسوا فى الناشئة-فضلا عن حفظ القرآن الكريم-الملكة العربية بما مرنوهم عليه من قواعد النحو وما حفظوهم من منتخبات الشعر والنثر، مما أعدّهم ليصبحوا أهل أدب بارع. ومنهم من كان يؤدّب أبناء الخاصة من الحكام الأمويين والأشراف من الأسرة الأموية والوزراء وغيرهم، ومنهم من كان يؤدب أبناء العامة فى المساجد أو فى دور ملحقة بها أو فى دور مستقلة بهم أو فى دورهم الخاصة.
وكان الناشئ حين ينهى هذا التعليم الأول على أيدى المؤدبين يتحول إلى حلقات الشيوخ فى المساجد ليتسع فى دروس العربية إن شاء أو ليتزود من هذا العلم أو ذاك من العلوم الدينية إما الفقه وإما التفسير وإما الحديث النبوى، وقد يجمع بين هذا كله. ومنذ عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية يقود حكامها الحركة العلمية. واستقر منذ أول هذه الدولة أن العالم فى أى علم من علوم العربية أو الدين لا يتم له علمه على الوجه الأكمل إلا إذا رحل إلى ينابيعه الأساسية فى المشرق، وحتى مؤدبو الكتاتيب تذكر لهم رحلات إلى البصرة والكوفة وبغداد على نحو ما نقرأ عن جودى (¬2) النحوى المتوفى سنة 198 والغازى (¬3) بن قيس المتوفى سنة 199. وكانت الرحلة فى طلب الفقه والعلوم الدينية أوسع، واشتهر الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل (172 - 180 هـ‍) بتحبيبها إلى الشباب القرطبى وتشجيعهم عليها، ورحل فى عهده كثيرون إلى المدينة لحمل فقه الإمام مالك وموطّئه. وتصبح الرحلة فى طلب العلم إلى المشرق تقليدا متبعا منذ هذا التاريخ، ويكثر الراحلون إليه من شباب العلماء الأندلسيين، ويفرد المقرى لمشاهيرهم فصولا طويلة فى نفحه، وهى تدل على أنها ظلت تقليدا متبعا قرونا متوالية.
ونحن لا نصل إلى عصر الحكم الربضى (180 - 206 هـ‍) حتى يكثر الفقهاء لعهده كثرة مفرطة، كما تدل على ذلك ثورة أهل الربض القبلى عليه بقرطبة، فقد ألّبهم كثيرون من الفقهاء عليه، حتى إذا أخفقت الثورة أمر بأن يرحل الثائرون ومؤلبوهم عن قرطبة،
¬_________
(¬1) مقدمة ابن خلدون ص 1252
(¬2) طبقات النحويين واللغويين للزبيدى ص 278
(¬3) الزبيدى ص 277.

الصفحة 62