كتاب تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (اسم الجزء: 8)

العلم والفقه باسط اليد على الفقراء وأهل الحاجة وذوى الزمانة (¬1)» وفى ذلك ما يؤكد بسطة يده على العلماء من كل صنف وإغداقه عليهم الأموال الجزيلة.
وتولّى بعده حفيده عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ‍). وتبلغ الأندلس فى عهده الذروة المنتظرة فى قوة السلطان، وتزدهر الحركة العلمية فى أيامه، وكان قد انتدب لرعايتها ابنه وولى عهده الحكم المستنصر، واستنّ له الإغداق على العلماء، ويكفى أن نعرف أنه أرسل إلى محمد بن القاسم بن شعبان الفقيه المالكى بالفسطاط-وهو أندلسى الأصل-عشرة آلاف دينار (¬2) ليفرّقها على شيوخ المالكية بمصر لنتصور مدى ما كان ينثر حينئذ من الأموال على فقهاء الأندلس وعلمائها من كل صنف، واستنّ لابنه الحكم أيضا إكرام العلماء القادمين من المشرق لينشروا فى الأندلس علمهم، ووفد عليه من بغداد أبو على القالى (¬3) سنة 330 فبالغ فى الحفاوة به، وقاد أبو على فى الأندلس-كما هو معروف-حركة لغوية ضخمة بمؤلفاته اللغوية وبمن تخرج على يديه هناك من تلاميذه اللغويين الكثيرين. وكما عنى الناصر بعلماء الدين واللغة عنى بمن يدرسون علوم الأوائل، ونرى إمبراطور بيزنطة قسطنطين السابع يرسل إليه بهدية بينها كتاب ديوسقوريدس فى الصيدلة باليونانية، ولم يكن فى قرطبة حينئذ من يعرف تلك اللغة، فطلب الناصر من الإمبراطور أن يرسل إليه أحد العارفين بها، فأرسل إليه الراهب نيقولا سنة 340 وكان يعرف اليونانية واللاتينية جميعا، وألف الناصر لجنة لمساعدته فى ترجمة الكتاب إلى العربية (¬4).
واقتدى الحكم بأبيه منذ كان وليا لعهده وأسند إليه الإشراف على الحركة العلمية، فنهض بها فى أيامه، حتى إذا خلفه فى الحكم (350 - 366 هـ‍) عنى بتلك الحركة إلى الذروة، وقد طرّز القالى باسم أبيه واسمه كتابه الأمالى ونوّه بهما طويلا فى مقدمته للكتاب، ونرى مؤلفين كثيرين فى الأندلس وفى المشرق يقدمون إليه مؤلفاتهم، من ذلك كتاب الاستيعاب (¬5) فى فقه مالك لأحمد بن عبد الملك ومحمد بن عبيد الله القرشى،
¬_________
(¬1) انظر المقتبس (طبع دار المعارف) الفصل الخاص بالثناء على الأمير عبد الله وتقريظه.
(¬2) حسن المحاضرة للسيوطى 1/ 313 - 314.
(¬3) انظر فى وفادة أبى على القالى على الناصر ومقامه بقرطبة طبقات النحويين واللغويين للزبيدى ص 204 وإنباء الرواة 1/ 204 ومعجم الأدباء لياقوت 7/ 30 وبغية الملتمس للضبى ص 216 وجذوة المقتبس للحميدى (طبع القاهرة) ص 155.
(¬4) انظر طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل تحقيق فؤاد سيد (طبع المعهد الفرنسى بالقاهرة) ص 22 وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (طبعة دار مكتبة الحياة ببيروت) ص 493 وما بعدها.
(¬5) الصلة لابن بشكوال (طبع مدريد) رقم 36.

الصفحة 64