" صفحة رقم 105 "
هذه السورة مدنية . ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأصحابه ، ثم قال : ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : ) عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ).
وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك . قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا . وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك . فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت فيه إذ قلت فيه .
وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعدياً ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع . واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء ، أو بما يحبون . ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم . لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفاً ، إذ أصله لا تتقدموا . وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي . وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه . قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : ) بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ ( ، مجاز من مجاز التمثيل . وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها ؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة ؛ والمعنى : لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم . ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه . ) إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ( لأقوالكم ، ( عَلِيمٌ ( بنياتكم وأفعالكم .
الحجرات : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
ثم ناداهم ثانياً ، تحريكاً لما يلقيه إليهم ، واستعباداً لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات . ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت . ) لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ ( : أي إذا نطق ونطقتم ، ( وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ ( إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) كالكلام مع غيره . ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي الله عنه : لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله . وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كان يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه . وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً ، والمخاطبون مؤمنون . ) كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ( : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا