كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 8)

" صفحة رقم 14 "
عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد . وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله . فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ،
الزخرف : ( 30 - 31 ) ولما جاءهم الحق . . . . .
ثم أردفه قوله : ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ ( ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه ؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته . فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد ) حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه .
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : ) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ ( ، جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من أهل زمانه بقولهم : ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم . انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب . والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولاً ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم . فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقالوا : لم كان محمداً ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم ؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال . وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم . من القريتين : أي من إحدى القريتين . وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف . قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي . وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل . وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي . قال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش ، وكان يقول : لو كان ما يقول محمد حقاً لنزل عليّ أو على ابن مسعود ، يعني عروة بن مسعود ، وكان يكنى أبا مسعود .
الزخرف : ( 32 ) أهم يقسمون رحمة . . . . .
( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ ( ؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم ، كأنه قيل : على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها . ثم في إضافته في قوله : ) رَحْمَةِ رَبّكَ ( ، تشريف له ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك . ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم ، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى . وإذا كان هو الذي تولى ذلك ، وفاوت بينهم ، وذلك في الأمر الفاني ، فكيف لا يتولى الأمر الخطير ، وهو إرسال من يشاء ، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك ، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم . وقرأ الجمهور : معيشتهم ، على الإفراد ؛ وعبد الله ، والأعمش ، وابن عباس ، وسفيان : معائشهم ، على الجمع . والجمهور : سخرياً ، بضم السين ؛ وعمرو بن ميمون ، وابن محيصن ؛ وابن أبي ليلى ، وأبو رجاء ، والوليد بن مسلم ، وابن عامر : بكسرها ، وهو من التسخير ، بمعنى : الاستعباد والاستخدام ، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم . ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه ، ما أطاق ذلك وضاع وهلك . ويبعد أن يكون سخرياً هنا من الهزء ، وقد قال بعضهم : أي يهزأ الغني بالفقير . وفي قوله : ) نَحْنُ قَسَمْنَا ( ، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا ، وهون على التوكل على الله . وقال مقاتل : فاضلنا بينهم ، فمن رئيس ومرؤوس . وقال قتادة : تلقى ضعيف القوة ، قليل الحيلة ، غني اللسان ، وهو مبسوط له ؛ وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقتر عليه . وقال الشافعي ، رحمه الله

الصفحة 14