كتاب شعاع من المحراب (اسم الجزء: 8)

بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاكَ بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطلِ فاردُدْه، وإن كان قريبًا حبيبًا (¬1).
إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبولِ الحقِّ قد نرفضُ حقًّا، لأنه جاء من شخصٍ نبغضُه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجَه بشكلٍ عام، علمًا بأن قبولَ الحقِّ الذي جاءَ به لا يعني موافقتَه في كلّ شيءٍ ولا الرضا عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخللُ في العدلِ في قبولِ الحقّ ورفضِ الباطل .. لقبولِ زلّةِ خطأٍ من شخصٍ نُحبُّه ونرتضي منهجَه علمًا بأن رفضَنا لهذه الزلَّةِ والخطأ منه، لا يعني بُغضَه ولا الانتقاصَ من قَدْرِه، ولا رفضَ بقيةِ الحقِّ الذي جاء به.
إنه العدلُ الذي ينبغي أن نأخذَ أنفسَنا به، ونتمنى به أن يُجريَ اللهُ الحقَّ على ألسنتِنا وألسنةِ خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمَه اللهُ حين قال: «ما ناظرتُ أحدًا إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقَّ على قلبهِ ولسانِه، فإن كان الحقُّ معي اتبعَني، وإن كان الحقُّ معه اتبعتُه» (¬2).
وأين هذا يا مسلمونَ ممن يتمنونَ انحرافَ خصومِهم، أو يرمون مخالِفيهم بالباطل، ويتهمونهم، وينفِّرونَ الناسَ منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماءَ، وقد يكون ما معهم من الحقِّ أكثرَ من خصومِهم، فإلى اللهِ المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطانُ أحيانًا ببعض المحبينَ وكم يُخطئُ هؤلاء وينسفونَ قواعدَ العدلِ وهم يَحسبونَ أنهم يُحسنونَ صنعًا، وكم نظلمُ أنفسَنا ونظلمُ غيرَنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالثٍ وإشعالِ معاركَ وهميةٍ بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأولُ والأخيرُ منها هم الأعداءُ المتربِّصون - والخاسرُ الأكبرُ هم
¬_________
(¬1) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 586 عن كتاب «فقه الائتلاف»، محمود الخزندار ص (98).
(¬2) عن فقه الائتلاف ص 104.

الصفحة 272