كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 8)

وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد علي أني لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلام الزمخشري أن صيغة الخبر تقتضي الإخبار بوقوع المخبر به، وإشهاده لله حقيقة، وإشهاده إياهم لما لم يكن حقيقة كان من مجاز ورود الأمر بمعنى التهديد، ويحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة لإقامة الحجة، وعدل عن الخبر إلى الأمر ليميز خطابهم عن خطاب الله تعالى".
وقلت: الأول هو الوجه، لأنه قد تقرر في البيان أن إجراء الكلام على مقتضى الظاهر لا يتضمن من النكتة واللطيفة ما يتضمنه الإجراء على خلاف المقتضى، فإن قوله: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ) كلام جار على الإخبار عن براءته من شركهم، فيفيد ما قال: "إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما قوله: (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فغير جار على مقتضاه، لأن أحداً لا يقول لعدوه المناوئ: اشهد أني بريء عنك، إلا أنه ينبهه بأنه لا يبالي به، ولا يخاف غوائله، وإليه الإشارة بقوله: "فما هو إلا تهاون بهم".
قوله: (يبس الثرى)، الأساس: "والتقى الثريان: مثل في سرعة تواد الرجلين، وأصله: أن يسقط الغيث الجود، فيلتقي نداه وندى الأرض العتيق تحتها. ولا توبس الثرى بيني وبينك؛ أي: لا تقاطعني، قال جرير:
ولا توبسوا بيني وبينكم الثرى ... فإن الذي بيني وبينكم مثري"
الجوهري: "ما بيني وبينك مثر، أي: أنه لم ينقطع، وهو مثل، كأنه قال: لم ييبس الثرى

الصفحة 110