كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 8)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكونهم ممتنعين عن الطعام، كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة، ولأنه لو عرفهم أنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام، ولم يحرضهم على الأكل، وإنما عدلوا إلى قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، ليكون الكلام جامعاً للمعاني، بحيث يفهم المقصود منه أيضاً.
واعلم أن إيراد قصة واحدة في مقامات متعددة بعبارات مختلفة وأنحاء شت، بحيث لا تغير ولا تناقض البتة: من فصيح الكلام وبليغه، وهو باب من الإيجاز المختص بالإعجاز، ويحتاج في التوفيق إلى قانون يرجع إليه، وهو أن يعمد إلى الاقتصاصات المتفرقة، ويجعل لها أصل؛ بأن يؤخذ من المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص فيه من تلك المعاني شيء يلحق به.
مثاله فيما نحن بصدده: أنه تعالى قص هذه القصة في هذه السورة على نمط، وفي الحجر على نمط، وفي الذاريات على نمط، قال في الحجر: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) إلى قوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الحجر: 51 - 58]، وفي الذاريات: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ* فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) إلى قوله: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [الذاريات: 25 - 32]، فذكر في هود: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، ثم ذكر البشارة بعده، ولم يذكره في الموضعين، فينبغي أن يقدر فيهما قبل البشارة هذا المعنى، ويقدر في سورة هود بعد الفراغ من البشارة: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، لأنه لم يذكره فيه، وذكره في الموضعين، وزيد في هود حديث المجادلة عن قوم لوط، ولم يذكر في الموضعين، فيقدر فيهما، واختصر في الحجر- بعد قولهم: "سلاماً"- جوابهم: "قالوا: سلام"، فيقدر ذلك مع ما يتم به المعنى، حتى يتصل بقوله: (لا تَوْجَلْ).

الصفحة 131