كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 8)

فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي: لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم؛ مخافة ردّهم له وتهاونهم به (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) بأن تتلوه عليهم، (أَنْ يَقُولُوا) مخافة أن يقولوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) أي: هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه.
ثم قال: (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي: ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فحرك الله منه): كقوله: هز من عطفه، وحرك من نشاطه. و"من" للتبعيض، يعني: أنه صلوات الله عليه كان مؤدياً لرسالات ربه، لكن فرض أنه قد يتهاون ويترك بعض ما يوحى إليه، فحرك بعضه ليقوم بكليته بأداء الرسالة، ويطرح المبالاة بردهم واستهزائهم، وتممه بقوله: "وهيجه"، وذلك أن قوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) وعيد عظيم وتهديد شديد، نحوه قوله تعالى: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، أي: وإن تركت شيئاً من ذلك فقد ارتكبت أمراً عظيماً وخطباً خطيراً.
وفي معنى التوقع الذي يعطيه "لعل" أيضاً تهديد، يعني: إن ترك بعض ما يوحى إليه مما ليس من شأنه، ولا ينبغي ولا يستقيم أن يكون، ولا يتصور ذلك إلا على سبيل الفرض لا على سبيل القطع، ومن ثم ناسبه بناء "ضائق" دون "ضيق"- كما قال-: "ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت".

الصفحة 28