كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 8)

وكان يعملها في بريةٍ بهماء في أبعد موضع من الماء، وفي وقتٍ عزَّ الماء فيه عزةً شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) يعني: في المستقبل (كَما تَسْخَرُونَ) منا الساعة، أي: نسخر منكم سخريةً مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.
وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا، أو: إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناءً على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق.
وروي أنّ نوحًا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد ما سبق منه من الدعاء عليهم: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح: 26]، لكن جيء به لما عسى أن تدخله أريحية الرحم، ويؤكد ذلك إيقاع قوله: (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) جواباً لسائل، وتأكيده بـ "إن".
قوله: (في برية بهماء): البهماء: الفلاة التي لا يهتدى لطرقها، ولا ماء فيها، ولا علم بها.
قوله: (إن تستجهلونا فيما نصنع، فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر): سمى سخريتهم استجهالاً، لأن السخرية في مثل هذا المقام من باب السفه والجهل، لأنها التعرض لسخط الله وعذابه، نحوه جواب موسى عليه السلام: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [البقرة: 67] عن قولهم: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً)، وهو من إطلاق المسبب على السبب.

الصفحة 70