كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 8)

[(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)].
نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز، على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله (يا أَرْضُ) (وَيا سَماءُ)، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله (ابْلَعِي ماءَكِ) و (أَقْلِعِي) من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نداء الأرض): هو مبتدأ، والخبر: "من الدلالة على الاقتدار العظيم"، و"أن السماوات والأرض" إلى آخره: تفسير للاقتدار العظيم، وأدخل العاطف كما هو دأبه وعادته.
قوله: (منقادة لتكوينه فيها ما يشاء) إلى آخره: مستفاد من تعقيب النداء بلفظ (ابْلَعِي)، فإن من عادة من يأمر المطيع- الذي إذا أمر لم يتوقف إذعانه- أن يقدم النداء على الأمر، ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المأمور، فيكون امتثاله للأمر أسرع مما لم يذكر معه النداء، سيما "يا"، فإنها تدل على أن الخطاب المتلو بعده معني به جداً، فالأمر بعد النداء هنا ترشيح للاستعارة؛ شبه السماوات والأرض بالمأمور الذي لا يتأتى منه العصيان لكمال هيبة الآمر، وأدخلهما في جنس ذلك المأمور، ثم خيل أنهما مأموران بعينيهما، فقيل: (يَا أَرْضُ) (وَيَاسَمَاءُ)، وجعلت القرينة الخطاب للجماد، ثم نسي التشبيه رأساً، وبني على الفرع الذي هو المشبه ما يبنى على الأصل المشبه به، قائلاً: (ابْلَعِي) و (أَقْلِعِي).
قال الزجاج رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) [يس: 30]: "الفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة من يعقل، لأن النداء باب تنبيه، فإذا قلت: يا زيد، فإن لم تكن دعوته لتخاطبه بكلام غير النداء لم يكن له معنى، وإنما تناديه لتنبهه بالنداء، ثم تقول

الصفحة 84