كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 8)

أَيْ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ لِيَقْضِيَ أَمْرًا. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) (مَنْ) في موضع رفع. (وَيَحْيى) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفٌ عَلَى لِيَهْلِكَ. وَالْبَيِّنَةُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ. أَيْ لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوتُ عَنْ بَيِّنَةٍ رَآهَا وَعِبْرَةٍ عَايَنَهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَكَذَلِكَ حَيَاةُ مَنْ يَحْيَا. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ حُجَّةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ وَقَطَعَتْ عُذْرَهُ، وَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ عَلَى ذلك. وقرى" من حيي" بيائين عَلَى الْأَصْلِ. وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، الْأُولَى قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَزِّيِّ وَأَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وقعت في المصحف.

[سورة الأنفال (٨): آية ٤٣]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
قَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِالْمَنَامِ مَحَلُّ النَّوْمِ وَهُوَ الْعَيْنُ، أَيْ فِي مَوْضِعِ مَنَامِكَ، فَحَذَفَ، عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَسْوَغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ" وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ" فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةُ الِالْتِقَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ رُؤْيَةُ النَّوْمِ. وَمَعْنَى (لَفَشِلْتُمْ) لَجَبُنْتُمْ عَنِ الْحَرْبِ. (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) اخْتَلَفْتُمْ. (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْفَشَلِ. وَيَحْتَمِلُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: سَلَّمَ أَيْ أَتَمَّ أمر المسلمين بالظفر.

[سورة الأنفال (٨): آية ٤٤]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) هَذَا فِي الْيَقِظَةِ. يَجُوزُ حَمْلُ الْأُولَى عَلَى الْيَقِظَةِ أَيْضًا إِذَا قُلْتَ: الْمَنَامُ مَوْضِعُ النَّوْمِ، وَهُوَ الْعَيْنُ، فَتَكُونُ الْأُولَى عَلَى هَذَا خَاصَّةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ لِلْجَمِيعِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُلْتُ لِإِنْسَانٍ كَانَ بِجَانِبِي

الصفحة 22