كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 8)
فَالرَّجَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، أَيْ لَا يَخَافُونَ عِقَابًا وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا. وَجُعِلَ لِقَاءُ الْعَذَابِ وَالثَّوَابِ لِقَاءٌ لِلَّهِ تَفْخِيمًا لَهُمَا. وَقِيلَ: يَجْرِي اللِّقَاءُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ، أَيْ لَا يَطْمَعُونَ فِي رُؤْيَتِنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَقَعُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ إِلَّا مَعَ الْجَحْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً" «١» [نوح: ١٣]. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَقَعُ بِمَعْنَاهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أَيْ رَضُوا بِهَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ فَعَمِلُوا لَهَا. (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أَيْ فَرِحُوا بها وسكنوا إليها، واصل اطمأن طأمن طُمَأْنِينَةٍ، فَقُدِّمَتْ مِيمُهُ وَزِيدَتْ نُونٌ وَأَلِفُ وَصْلٍ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) أَيْ عَنْ أَدِلَّتِنَا (غافِلُونَ) لَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ. (أُولئِكَ مَأْواهُمُ) أَيْ مَثْوَاهُمْ وَمُقَامُهُمُ. (النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الكفر والتكذيب.
[سورة يونس (١٠): آية ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أَيْ يَزِيدُهُمْ «٢» هِدَايَةً، كَقَوْلِهِ:" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً" «٣» [محمد: ١٧]. وَقِيلَ:" يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ" إِلَى مَكَانٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ:" يَهْدِيهِمْ" يُثِيبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ" بِالنُّورِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ، يَجْعَلُ لَهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ. وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُقَوِّي هَذَا أَنَّهُ قَالَ: (يَتَلَقَّى الْمُؤْمِنُ عَمَلَهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَيُؤْنِسُهُ وَيَهْدِيهِ وَيَتَلَقَّى الْكَافِرُ عَمَلَهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوحِشُهُ وَيُضِلُّهُ). هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَجْعَلُ عَمَلَهُمْ هَادِيًا لَهُمْ. الْحَسَنُ:" يَهْدِيهِمْ" يَرْحَمُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) قِيلَ: فِي الْكَلَامِ وَاوٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيْ وَتَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، أَيْ مِنْ تَحْتِ بَسَاتِينِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ تَحْتِ أَسِرَّتِهِمْ، وَهَذَا أَحْسَنُ فِي النُّزْهَةِ والفرجة.
---------------
(١). راجع ج ١٩ ص ٣٠٣.
(٢). في ب: يرزقهم.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٣٨.
الصفحة 312