كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 8)

عُبَيْدٍ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْعَابِدَاتِ، وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَهَا مُكْرِمًا وَمُحِبًّا، وَمَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا أَخُوهَا الْمُخْتَارُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا بُغْضًا شَدِيدًا، وَكَانَ عند عمه في المدائن، وَكَانَ عَمُّهُ نَائِبَهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ على خَذَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فَلَمَّا أَحَسَّ الْحَسَنُ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ فَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فِي جَيْشٍ قَلِيلٍ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِعَمِّهِ: لَوْ أَخَذْتَ الْحَسَنَ فَبَعَثْتَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ لاتخذت عنده الْيَدَ الْبَيْضَاءَ أَبَدًا، فَقَالَ لَهُ: عَمُّهُ بِئْسَ ما تأمرني به يا ابن أَخِي، فَمَا زَالَتِ الشِّيعَةُ تُبْغِضُهُ حَتَّى كَانَ من أمر مسلم بن عقيل بن أبى طالب مَا كَانَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْكُوفَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَا لَأَنْصُرَنَّهُ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذلك فحبسه بعد ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يزيد بن معاوية يتشفع فِيهِ، فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَطْلَقَهُ وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَقَاتَلَ مَعَهُ حِينَ حَصَرَهُ أَهْلُ الشَّامِ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَ المختار ما قال أَهْلُ الْعِرَاقِ فِيهِ مِنَ التَّخْبِيطِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَيْهَا، وَكَانَ يُظْهِرُ مَدْحَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَسُبُّهُ في السر، ويمدح محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَى الْكُوفَةِ بِطَرِيقِ التَّشَيُّعِ وَإِظْهَارِ الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ من الشيعة وَأَخْرَجَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْهَا، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الْمُخْتَارِ بِهَا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ كَانَ مُدَاهِنًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ خَرَجَ مَنَ الْكُوفَةِ، وَأَنَا وَمَنْ بِهَا فِي طَاعَتِكَ، فَصَدَّقَهُ ابْنُ الزبير لأنه كان يدعو إليه عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِكَرْبَلَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَظَفِرَ بِرُءُوسِ كِبَارٍ مِنْهُمْ، كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ الْأَلْفِ الَّذِينَ وَلُوا قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَسِنَانَ بْنَ أَبِي أَنَسٍ، وخولى بن يزيد الأصبحي، وخلق غَيْرَ هَؤُلَاءِ، وَمَا زَالَ حَتَّى بَعَثَ سَيْفَ نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفا إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه- في أضعاف مضاعفة- كانوا ثمانين ألفا، وقيل ستين ألفا، فقتل ابن الأشتر ابن زِيَادٍ وَكَسَرَ جَيْشَهُ، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ زِيَادٍ وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَعَ الْبِشَارَةِ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شديدا، ثم إن المختار بعث برأس ابن زِيَادٍ وَرَأْسِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُمَا إلى ابن الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا فَنُصِبَتْ عَلَى عَقَبَةِ الْحَجُونَ.
وَقَدْ كَانُوا نَصَبُوهَا بِالْمَدِينَةِ، وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُخْتَارِ بِالْمُلْكِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أَخَاهُ مُصْعَبًا أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ إِلَى البصرة

الصفحة 290