كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 8)
نَسَبَهُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا لِلنَّفْيِ، كَمَا شَرَحْنَا. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ لَا يُرَادُ بِهِ حقيقته، بل يؤول مَعْنَاهُ إِلَى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ بِصَاحِبِكُمْ مِنَ الْجُنُونِ، أَيْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَفَى تَعَالَى عَنْهُ الْجِنَّةَ أَثْبَتَ أَنَّهُ نَذِيرٌ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ: أَيْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا به، وبين يَدَيْ يُشْعِرُ بِقُرْبِ الْعَذَابِ.
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الْآيَةُ: فِي التَّبَرِّي مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا، وَطَلَبِ الْأَجْرِ عَلَى النُّورِ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهِ. وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، وَالْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ تقديره: سألتكموه، وفَهُوَ لَكُمْ الْخَبَرُ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاحْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً مَفَعُولَةً بِسَأَلْتُكُمْ، وَفَهُوَ لَكُمْ جُمْلَةٌ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ مَسْأَلَةٍ لِلْأَجْرِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي شَيْئًا فَخُذْهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْبَتَّ لِتَعْلِيقِهِ الْأَخْذَ بما لم يمكن، وَيُؤَيِّدُهُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجْرِ مَا فِي قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «1» ، وَفِي قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «2» ، لِأَنَّ اتِّخَاذَ السبيل إلى الله نصيبهم مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمَوَدَّةُ فِي الْقَرَابَةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ قَدِ انْتَظَمَتْ وَإِيَّاهُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَجْرُ: الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهُوَ لَكُمْ، أَيْ ثَمَرَتُهُ وَثَوَابُهُ، لِأَنِّي سَأَلْتُكُمْ صِلَةَ الرَّحِمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَرَكْتُهُ لَكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: مُطَّلِعٌ حَافِظٌ، يَعْلَمُ أَنِّي لَا أَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى نُصْحِكُمْ وَدُعَائِكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا أَطْمَعُ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ.
وَالْقَذْفُ: الرَّمْيُ بِدَفْعٍ وَاعْتِمَادٍ، وَيُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ لِقَوْلِهِ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ «3» ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «4» . قَالَ قَتَادَةُ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ وَيُظْهِرُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ بِحَيْثُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَأَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِمَا يُقْذَفُ إِلَيَّ مِنَ الْحَقِّ. وَأَصْلُ الْقَذْفِ: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، أَوِ الحصا وَالْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقْذِفُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِالْحَقِّ هُوَ الْمَفْعُولُ، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَقْذُوفُ مَحْذُوفًا، أَيْ يَقْذِفُ، أَيْ يُلْقِي مَا يُلْقِي إِلَى أَنْبِيَائِهِ من الوحي والشرع
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 57.
(2) سورة الشورى: 42/ 23.
(3) سورة طه: 20/ 39.
(4) سورة الأحزاب: 33/ 26.
الصفحة 562
572