كتاب توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (اسم الجزء: 8)

في هذه الأحاديث: تصوير حال إنسان فقد راحلته في أرض صحراء مهلكة، ليس فيها أحد، وعليها طعامه وشرابه، وضلت عنه راحلته فطلبها، وفي اللفظ الآخر: أنه نام فلما استيقظ لم يجدها، فذهب ينظر إلى جميع الجهات ويطلبها حتى شق عليه وتعب فلم يجدها، فرجع إلى مكانه فنام ليموت؛ لأنه أيس من الحياة، فلما استيقظ وجدها عنده قائمة على رأسه بخطامها، وفي اللفظ الآخر: أنه أخذها وأمسك بخطامها، فماذا تكون حاله إذا وجدها؟ ! وكيف يكون فرحه؟ ! لا شك أن فرحه شديد، والله تعالى أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، لكن فرح الله لا يماثل فرح المخلوقين-كما سبق- بل هو وصف يليق بجلال الله وعظمته.
قوله: ((دَوِّيَّةٍ)) نقل النووي رحمه الله اتفاق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو والياء، وهي الأرض القفر والفلاة الخالية (¬١)، وفي الرواية الثانية: ((بِدَاوِيَّةٍ))، وجاء تفسيرها في الرواية الأخيرة بالأرض القفر - أي: التي لا نبات فيها-.
قوله: ((اللهمَّ أنتَ رَبِّي وأنَا عبدُكَ)): قال هذا لما فقد الراحلة وعليها طعامه وشرابه، وأيس منها، ثم نام ليموت، ثم لما استيقظ ووجدها عنده اندهش، وقال- من شدة الفرح يخاطب ربه-: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فأخطأ، ولم يؤاخَذ، مع أن هذه كلمة كفرية.
فدل هذا على أن من تكلم بكلمة كفر مخطئًا لا يَكفر، وكذلك من تكلم بكلمة كفر جاهلًا لا يعلم، كما مر في حديث الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه، فتكلم واعتقد أنه لا يُبعث جهلا، حمله عليه الخوف العظيم من الله، لا عنادا ولا تكذيبا، فإنه لو كان عالما أو معاندا لكفر، قال شيخ
---------------
(¬١) شرح مسلم، للنووي (١٧/ ٦١).

الصفحة 24