كتاب توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (اسم الجزء: 8)

العهد والميثاق أن ينفذوا وصيته، ووصيته أنه قال: إذا أنا مت فأحرقوني بالنار، فإذا أكلت النار لحمي وخلصت إلى عظمي، فاسحقوا العظم، أي: اطحنوه ثم ذروه فإذا صرتُ رمادًا ((ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)) (¬١)، وفي لفظ: ((فَذَرُّونِي فِي اليَمِّ)) (¬٢)، أي: في البحر، وفي لفظ: ((ثُمَّ اذْرُوا نِصْفِي فِي الْبَحْرِ، وَنِصْفِي فِي الْبَرِّ)) (¬٣)، ففعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم، فإذا هو إنسان قائم، فقال الله له: ما حملك على ذلك؟ ! قال: يارب خشيتك، فغفر الله له.
وفيه: أنه اختلف العلماء في هذا الرجل: فمنهم من قال: إن هذا كان فيمن سبقنا، فهذا منكِرٌ للبعث وشاكٌّ في قدرة الله، وهذا كُفر، ولعله كان فيمن سبقنا أنه يُغفر للمشرك، لكن هذا بعيد.
وبعضهم أوَّل قوله: ((لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْه)): بمعنى: ضيَّق كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه}، وأجيب بأجوبة.
والصواب: الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية (¬٤) وغيره: أن هذا الرجل لم يكفر؛ لأنه أنكر أمرًا دقيقًا خفيًّا من دقائق الصفات، والذي حمله على ذلك هو الجهل، وليس عنده تكذيب، أو عناد، فلو كان عالمًا أو معاندًا أو مكذبًا لكان كافرًا، فهو لم ينكر البعث، ولكنه ظن أنه لو وصل إلى هذه الحالة وأُحرق وسُحق وذُرِّي في البر والبحر أنه يفوت على الله، ولا يدخل تحت القدرة، ولو ترك لبعثه الله، وهو لم ينكر قدرة الله، ولكنه أنكر كمال تفاصيل القدرة، فغفر الله له، وهو داخل في قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}؛ ولهذا
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (٣٤٧٨).
(¬٢) أخرجه البخاري (٣٤٧٩).
(¬٣) أخرجه أحمد (١١٠٩٦).
(¬٤) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١١/ ٤٠٨).

الصفحة 35