كتاب توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (اسم الجزء: 8)

وقوله: ((فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ))، أي: أتى رضي الله عنه من البحرين ومعه شيء من المال، والصحابة رضي الله عنهم في أول الهجرة كانوا في شدة وفاقة، وقلة ذات اليد، فسمعوا بأن أبا عبيدة رضي الله عليه قدم بمال من البحرين ((فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)) وفي لفظ عند البخاري: ((فوافته صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬١)، أي: أبا عبيدة رضي الله عنه.
قوله: ((فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ)): يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم شيئًا من المال، ويقسمه بينهم؛ لينتفعوا به لقلة ذات اليد؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ((لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ)) (¬٢).
فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم عرف ذلك منهم ((فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَىهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ؟ ))، أي: وأنتم تريدون أن أقسمه بينكم، قالوا: ((أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ))، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ))، وهذا تبشير من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأمرٌ لهم بتأميل الخير، وفيه: حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ)): فيه: دليل على أن الغنى أشد خطرًا من الفقر، قال الله تعالى: {كلَّا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}، فالفقر قد يصبر عليه الإنسان ويتحمله، لكن الغنى قد يفتح عليه أبوابَ شرور كثيرة؛ لهذا قال بعض الصحابة: ((ابْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ)) (¬٣)، وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}، فالناس مع الفقر أقرب إلى الاستقامة منهم مع الغنى.
وقوله: ((وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (٦٤٢٥).
(¬٢) أخرجه البخاري (٤٢٤٢).
(¬٣) أخرجه الترمذي (٢٤٦٤).

الصفحة 379