كتاب توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (اسم الجزء: 8)

ويُستثنى من هذا الشيءُ القليل الذي لا يؤثر، كما مدح النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصديقَ رضي الله عنه، ففي الحديث: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ)) (¬١)، وكما قال- في استرخاء إزاره رضي الله عنه-: ((لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ)) (¬٢)، وكما مدح عمرَ رضي الله عنه، فقال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ)) (¬٣)، وكما مدح عثمان رضي الله عنه، قال: ((أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! )) (¬٤).
وذكر النووي رحمه الله وجه الجمع بين هذه الأحاديث، فقال: ((قال العلماء: وطريق الجمع بينها: أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يُخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يُخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به كان مستحبًّا، والله أعلم)) (¬٥).
قلت: والذي يظهر لي: أن الشيء القليل هو الذي يستثنى، أما الكثير فلا ينبغي.
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (١٨٩٧)، ومسلم (١٠٢٧).
(¬٢) أخرجه البخاري (٥٧٨٤).
(¬٣) أخرجه البخاري (٣٢٩٤)، ومسلم (٢٣٩٦).
(¬٤) أخرجه مسلم (٢٤٠١).
(¬٥) شرح مسلم، للنووي (١٨/ ١٢٦).

الصفحة 440