كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 8)

كان يُصَلِّيها فيه كلَّ ليلةٍ، حتّى كادَ الشَّفقُ أن يَغِيبَ، ثُمَّ نزلَ فصلّاها وغابَ الشَّفقُ، وصلَّى العِشاءَ، وأخبرَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كذلك كان يفعلُ إذا جَدَّ به السَّيرُ (¬١).
قيلَ لهُ: قد رَوَى حمّادُ بن زيدٍ، عن أيُّوبَ، عن نافِع، عن ابن عُمرَ: أنَّهُ اسْتُصرِخَ (¬٢) على صَفيَّةَ، فسارَ حتّى غابتِ الشَّمسُ، وبَدَتِ النُّجُومُ، وقال: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجِلَ به السَّيرُ في سَفرِهِ، جَمعَ بين هاتينِ الصَّلاتينِ، فسارَ حتّى غابَ الشَّفقُ، ثُمَّ نزلَ فجمَعَ بينهُما (¬٣).
وهذا الإسنادُ أصحُّ (¬٤)، ومعناهُ على ما ذكَرْنا أوضحُ، ولو صحّا جميعًا، كانا دليلًا على جَوازِ الجمع كيف شاءَ المُسافِرُ من الوَجْهينِ جميعًا.
وقد أجمَعَ المُسلمُونَ قديمًا وحديثًا، على أنَّ الجمعَ بين الصَّلاتينِ بعَرَفةَ: الظُّهرِ والعصرِ، في أوَّلِ وقتِ الظُّهرِ، والمغرِبِ والعشاءِ بالمُزدلِفةِ، في وقتِ العشاءِ. وذلك سفرٌ مُجتمعٌ عليه، وعلى ما ذَكَرنا فيه، فكلُّ ما اختُلِفَ فيه من مِثلِهِ، فمردُودٌ إليهِ.
روى مالكٌ (¬٥)، عن ابن شِهاب، أنَّهُ قال: سألتُ سالم بن عبدِ الله: هل يُجمعُ بين الظُّهرِ والعَصْرِ في السَّفرِ؟ فقال: نعم، لا بأسَ بذلك، ألم ترَ إلى صَلاةِ النّاسِ بعَرَفةَ؟
---------------
(¬١) أخرجه أبو داود (١٢١٢)، والدارقطني في سننه ٢/ ٢٤٣ (١٤٦٦) من طريق فضيل بن غزوان، به.
(¬٢) أي: جاءه صارخ يُعلمه بموت صفية. والاستصراخ: الاستغاثة، واستُصرخ الإنسان، وبه، إذا أتاه الصارخ، وهو المصوت، يُعلمه بأمر حادث يستغيث به عليه، أو ينعى له ميتًا. انظر: النهاية لابن الأثير ٣/ ٢١.
(¬٣) أخرجه أبو داود (١٢٠٧)، وأبو عوانة (٢٣٨٦)، والطحاوي في شرح معاني الآثار ١/ ١٦٢، والبيهقي في الكبرى ٣/ ١٥٩، من طريق حماد بن زيد، به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنَّف ٢/ ٧٥ (٤٤٠٢)، وأحمد في مسنده ٩/ ١٢٩ (٥١٢٠)، والبزار في مسنده ١٢/ ١٧٩ (٥٨٢٢) من طريق أيوب، به. وهو في الموطأ ١/ ٢٠٧ (٣٨٤) من حديث مالك عن نافع بنحوه وسيأتي في ٩/ ٤٧.
(¬٤) في ض، م: "واضح"، والمثبت من ظا.
(¬٥) أخرجه في الموطأ ١/ ٢٠٨ (٣٨٧).

الصفحة 50