كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 8)

هُوَ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ وَقِيلَ الَّذِي فِيهِ مَاءٌ وَالْمُرَادُ هُنَا بَلَدُهُمْ وَقَوْلُهُ شِعْبُ الْأَنْصَارِ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَقِيلَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ وَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَبِمَا بَعْدَهُ التَّنْبِيهَ عَلَى جَزِيلِ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ النُّصْرَةِ وَالْقَنَاعَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَنْ هَذَا وَصْفُهُ فَحَقُّهُ أَنْ يُسْلَكَ طَرِيقُهُ وَيُتَّبَعُ حَالُهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ فِي نُزُولِهِ وَارْتِحَالِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَأَرْضُ الْحِجَازِ كَثِيرَةُ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَإِذَا تَفَرَّقَتْ فِي السَّفَرِ الطُّرُقُ سَلَكَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ وَادِيًا وَشِعْبًا فَأَرَادَ أَنَّهُ مَعَ الْأَنْصَارِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْوَادِي الْمَذْهَبَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ قَوْلُهُ الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ الشِّعَارُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ خَفِيفَةٌ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجِلْدَ مِنَ الْجَسَدِ وَالدِّثَارُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَمُثَلَّثَةٍ خَفِيفَةٍ الَّذِي فَوْقَهُ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ لَطِيفَةٌ لِفَرْطِ قُرْبِهِمْ مِنْهُ وَأَرَادَ أَيْضًا أَنَّهُمْ بِطَانَتُهُ وَخَاصَّتُهُ وَأَنَّهُمْ أَلْصَقُ بِهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قَسْمًا وَحَظًّا قَوْلُهُ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحَتَيْنِ وَيَجُوزُ كَسْرُ أَوَّلِهِ مَعَ الْإِسْكَانِ أَيِ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَثَرَةً شَدِيدَةً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ اشْتَرَاكٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ يُفَضِّلُ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ فِي الْفَيْءِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَثَرَةِ الشِّدَّةُ وَيَرُدُّهُ سِيَاقُ الحَدِيث وَسَببه قَوْله فَاصْبِرُوا حَتَّى تلقونى علىالحوض أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَيِ اصْبِرُوا حَتَّى تَمُوتُوا فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَنِي عِنْدَ الْحَوْضِ فَيَحْصُلُ لَكُمُ الِانْتِصَافُ مِمَّنْ ظَلَمَكُمْ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ علىالصبر وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ وَإِفْحَامِهِ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَحُسْنِ أَدَبِ الْأَنْصَارِ فِي تَرْكِهِمُ الْمُمَارَاةَ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْحَيَاءِ وَبَيَانِ أَنَّ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَنْ شُبَّانِهِمْ لَا عَنْ شُيُوخِهِمْ وَكُهُولِهِمْ وَفِيهِ مَنَاقِبُ عَظِيمَةٌ لَهُمْ لِمَا اشْتَمَلَ مِنْ ثَنَاءِ الرَّسُولِ الْبَالِغِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ الْكَبِيرَ يُنَبِّهُ الصَّغِيرَ عَلَى مَا يَغْفُلُ عَنْهُ وَيُوَضِّحُ لَهُ وَجْهَ الشُّبْهَةِ لِيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ وَفِيهِ الْمُعَاتَبَةُ وَاسْتِعْطَافُ الْمُعَاتِبِ وَإِعْتَابُهُ عَنْ عَتْبِهِ بِإِقَامَةِ حُجَّةِ مَنْ عَتَبَ عَلَيْهِ وَالِاعْتِذَارُ وَالِاعْتِرَافُ وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِقَوْلِهِ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَكَانَ كَمَا قَالَ وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ أَنَسٌ فَلَمْ يَصْبِرُوا وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلَ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْغَنِيَّ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ وَأَنَّ مَنْ طَلَبَ حَقَّهُ مِنَ الدُّنْيَا لَا عَتْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَمَشْرُوعِيَّةُ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ الَّذِي يَحْدُثُ سَوَاءً كَانَ خَاصًّا أَمْ عَامًّا وَفِيهِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْخُطْبَةِ وَفِيهِ تَسْلِيَةُ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا مِمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْحَضُّ عَلَى طَلَبِ الْهِدَايَةِ والألفة والغنى وَأَن الْمِنَّة لله وَرَسُوله علىالاطلاق وَتَقْدِيم جَانب الْآخِرَة علىالدنيا وَالصَّبْرُ عَمَّا فَاتَ مِنْهَا لِيَدَّخِرَ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى

الصفحة 52