كتاب شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)
الجبل، ويجوز الفتح بلا تنوين على إعمال لا مع حذف الخير أي لا سهل فيه والرفع مع التنوين خبر مبتدأ مضمر أي لا هو. قال البدر الدماميني: ويلزم عليه إلغاء لا مع عدم التكرير في توجيه الرفع ودخول لا على الصفة المفردة مع انتفاء التكرير في توجيه الجر وكلاهما باطل انتهى. وعند الطبراني لا سهل فيرتقى إليه (ولا سمين) بالجر والرفع منوّنًا والفتح بلا تنوين كما مرّ في لا سهل، ويجوز أن يكون رفع سمين على أنه صفة للحم وجره صفة للجمل (فينتقل) أي لا ينقله أحد لهزاله. وعند أبي عبيد فينتقى وهو وصف للحم أي ليس له نقي يستخرج والنقي بكسر النون المخ يقال نقوت العظم ونقيته إذا استخرجت مخه.
قال القاضي عياض: انظر إلى كلامها فإنه مع صدق تشبيهه قد جمع من حسن الكلام أنواعًا، وكشف عن محيا البلاغة قناعًا، وقرن بين جزالة الألفاظ، وحلاوة البديع، وضم تفاريق المناسبة والمقابلة والمطابقة والمجانسة والترتيب والترصيع، فأما صدق تشبيهها فقد أودعت أول كلامها تشبيه شيئين من زوجها بشيئين فشبهت باللحم الغث بخله وقلة عرفه، وبالجبل الوعث شراسة خلقه وشموخ أنفه، فلما تممت كلامها جعلت تفسر شابقة كل واحدة من الجملتين وتفصل ناعتة كل قسم من المشبهين ففصلت الكلام وقسمته، وأبانت الوجه الذي علقت التشبيه به وشرحته، فقالت: لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلًا لأن الشيء المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب، ولا اللحم سمين فيحتمل في طلبه واقتنائه مشقة صعود الجبل ومعاناة وعورته فإذا لم يكن هذا ولا ذاك واجتمع قلة الحرص عليه ومشقة الوصول إليه، لم تطمح إليه همة طالب ولا امتدت نحوه أمنية راغب، فقطع الكلام عند تمام التشبيه والتمثيل، وابتداؤه بحكم التفسير والتفصيل أليق بنظم الكلام وأحسن من نفي التبرئة وردّ الصفة في نمط البيان وأجلى في ردّ الأعجاز على صدور هذه الأقسام، والتشبيه أحد أبواب البلاغة وأبدع أفانين هذه
الصناعة وهو موضع للجلاء والكشف والمبالغة في البيان والعبارة عن الخفي بالجلي، والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير والشيء بما هو أعظم منه وأحسن أو أخس وأدون وعن القليل الوجود بالمألوف المعهود، وكل هذا تأكيد في البيان والمبالغة في الإيضاح، فانظر إلى قول امرأة: زوجي بخيل لا يوصل إليّ شيء مما عنده، وإلى كلام هذه المرأة فقد شبهت بخل زوجها وأنه لا يوصل إلى ما عنده مع شراسة خلقه وكبر نفسه بلحم الجمل الغث على رأس الجبل الوعث، فشبهت وعورة خلقه بوعورة الجبل وبعد خيره ببعد اللحم على رأسه والزهد فيما يرجى منه لقلته وتعذره بالزهد في لحم لجمل الغث فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه، وهذا من تشبيه الجلي بالخفي والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير، ثم انظر أيضًا حسن نظم كلامها ونضارته وأخذه حقه من المؤالفة والمناسبة في الألفاظ التي هي رأس الفصاحة وزمام البلاغة فإنها وازنت ألفاظها وماثلت كلماتها وقدّرت فقرها وحسنت أسجاعها فوازنت في الفقرة الأولى لحم برأس في الثانية وجمل بجبل وغث بوعث وقحر بوعر فأفرغت كل فقرة في قالب أختها ونسجتها على منوال صاحبتها، ثم في كلامها أيضًا نوع آخر من البديع وهو الموازنة ويسمى الترصيع والتسميط والتصفير والتسجيع وهو أن تتضمن الفقر أو بيت الشعر مقاطع أخر بقوافٍ متماثلة غير فقر السجع وقوافي الشعر اللازمة فيتوشح بها القول وينفصل بها نظم اللفظ، كما أتت هذه المرأة بجمل في وسط الفقرة الأولى وجبل في وسط الفقرة الأخرى، ففصلت بذلك الكلام على جزء من المقابلة أثناء السجعتين اللتين هما غث ووعث لكل فقرة سجعتان متقابلتان متماثلتان، ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع يسمى المطابقة وهو مقابلة الشيء بضده فقابلت الوعر بالسهل والغث بالسمين في الفقرتين الأخيرتين وهو مما يحسن الكلام ويروق بمناسبته، وفي طيه أيضًا نوع من
الصفحة 81
505