كتاب شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 8)

القاموس: ككتاب حمائل السيف أي طويل القامة وفي ضمن كلامها إنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته (عظيم الرماد) لأن ناره لا تطفأ لتهتدي الضيفان إليها فيصير رمادها كثيرًا لذلك أو كنّت به عن كونه مضيافًا لأن كثرة الرماد مستلزمة لكثرة الطبخ المستلزمة لكثرة الأضياف، وهذه الكناية عندهم من الكنايات البعيدة لأن الانتقال فيها من الكناية إلى المطلوب بها بواسطة فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدور ومن كثرة الإحراق إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الآكلين، ومنها إلى كثرة الضيفان.
(وها هنا فائدة جليلة في الفرق بين الكناية والمجاز).
قال الشيخ تقي الدين السبكي، ومن خطة نقلت من الفروق المشهورة بينهما أن الحقيقة لا يصح إرادتها مع المجاز وتصح إرادتها مع الكناية، وأقول هذا صحيح ولا يحصل به شفاء لأن الكناية إن أريد بها معناها كانت حقيقة وإن أريد بها المكنّى عنه كانت مجازًا، وأيضًا فإن هذا إنما يجيء عند من لا يجوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز أما من يجوّزه فلا يمنع إرادة الحقيقة مع إرادة المجاز والجواب أن الكناية مثل قولنا: كثير الرماد وله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يراد حقيقته فقط من غير أن يقصد معنى الكرم فهذا حقيقة لا كناية ولا مجاز بأن يريد الإخبار عن رجل عنده رماد كثير حاصل عنده وإن كان بخيلًا.
الثاني: أن يقصد بقوله كثير الرماد استعماله في معنى كريم ونقله إليه على وجه الاستعارة لما بينهما من العلاقة، وهذا مجاز لأنه استعمال اللفظ في غير موضوعه.
الثالث: أن يقصد استعماله في معناه الحقيقي ليفيد معنى الكرم للزومه له غالبًا وهذا هو الكناية، فالمعنى الحقيقي مراد والمعنى المجازي مراد بالدلالة عليه بالمعنى الحقيقي، فعلى هذا ينبغي حمل قولهم إنه تجتمع الكناية مع الحقيقة بخلاف المجاز ولا فرق بين أن يقول: يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو لا، لأن معنى الجمع بين الحقيقة والمجاز أن يريدهما بكلمة واحدة يستعملها فيهما والكناية لم يستعملها فيهما وإنما استعملها في أحدهما للدلالة على الآخر والتعريض قريب من الكناية يشتركان في إرادة الحقيقة وفي قصد إفادة معنى آخر ويفترقان في أن المفاد بالكناية على جهة اللزوم غالبًا والدلالة عليه قوية وفي التعريض بخلافه والله أعلم انتهى.
(قريب البيت من الناد) من مجلس القوم فإذا اشتوروا على أمر اعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره لشرفه في قومه أو وصفته بقرب البيت لطالب القرى، وبالجملة فقد وصفته بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة، والنادي بالياء على الأصل لكن المشهور في الرواية حذفها وبه يتم السجع، وفي قولها من البديع المناسبة والاستعارة والإرداف والتتبع وحسن التسجيع فناسبت ألفاظها وقابلت كلماتها بقولها رفيع العماد طويل النجاد فكل لفظة على وزن صاحبتها، وفيه الإرداف والتتبع في طويل النجاد فإن طول النجاد من توابع الطول ولوازمه وعظيم الرماد من توابع الكرم وروادفه وكذلك قريب البيت من الناد من التتبع البديع أيضًا إذ العادة أنه لا ينزل قرب النادي إلا المنتصب للضيفان فكان ردفًا لكرمه وجوده. وقولها طويل النجاد أبلغ وأكمل من قولها طويل، فلما عبرت عنه بما هو من توابعه بقولها طويل النجاد أبلغت في طوله وكأنها أظهرت طوله للسامع صورة ليراها مع ما في هذه الصيغة من طلاوة اللفظ مع الإيجاز إذ لو أرادت تحقيق طوله المحمود لطال كلامها وتحت هذه الألفاظ الوجيزة جمل كثيرة أعربت هذه الكنايات اللطيفة عنها، وأين هي في البلاغة من قولها لو قالت زوجي كريم كثير الضيفان أو كرم الناس فإن واحدًا من هذه الأوصاف على كثرة ألفاظها ومبالغة أوصافها لا ينتهي منتهى واحد من قولها عظيم الرماد. قال القاضي عياض: إذا لمحت كلام هذه وتأملته ألفيتها لأفانين البلاغة جامعة وبعلم البيان وبعض الإيجاز والقصد قارعة انتهى.

الصفحة 86