كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 8)

أي جميعاً غايةٌ ليُحْشَرُ أو ليوزعونَ أي حتَّى إذا حضروها وما ميزيدة لتأكيدِ اتصالِ الشهادةِ بالحضورِ {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فى الدنيا من فنون الكفرِ والمعاصِي بأنْ يُنطقَها الله تعالى أو يظهرَ عليها آثار ما اقترفوه بهَا وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المرادَ بشهادةِ الجلودِ شهادةُ الفروجِ وهو الأنسبُ بتخصيصِ السؤالِ بَها في قولِه تعالى
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} فإن ما تشهدُ به من الزنا أعظمُ جنايةً وقبحاً وأجلبُ للخِزي والعقوبةِ مما يشهدُ به السمع والأبصا من الجناياتِ المكتسبةِ بتوسُّطِهما وقيل المراد بالجلود الجوراح أي سألُوها سؤالَ توبيخٍ لما رُوي أنَّهم قالُوا لها فعنكُنَّ كنا نناضِلُ وفي روايةٍ بُعداً لكُنَّ وسحاق عنكنَّ كنتُ أجادلُ وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في خطابِ الجلود وفي قوله تعلى {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كلَّ شَىْء} لوقوعِها في موقعِ السؤالِ والجوابِ المختصَّينِ بالعقلاءِ أي أنطقنَا الله الذي أنطق وأقدرنا على بيانِ الواقعِ فشهدنا عليكم بما علمتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناهَا وقيلَ ما نطقنَا باختيارِنا بلْ أنطقنَا الله الذى أنطق كلَّ شىء وليسَ بذاكَ لما فيهِ من إيهامِ الاضطرارِ في الإخبارِ وقيلَ سألُوها سؤالَ تعجب فالمنى حينئذٍ ليس نطقُنا بعجبٍ من قُدرةِ الله الذي أنطقَ كلَّ حَي {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن من قدَر على خلقِكم وإنشائِكم أولاً وعلى إعادتِكم ورجْعِكم إلى جزائِه ثانياً لا يُتعجبُ من إنطاقِه لجوارِحِكم ولعل صيغةَ المضارعِ مع أنَّ هذه لمحاورة بعدَ البعثِ والرجعِ لَمَّا أنَّ المرادَ بالرجعِ ليسَ مجردَ الردِّ إلى الحياةِ بالبعث بل ما يعُمّه وما يترتبُ عليهِ من العذاب الخالد المترتب عندَ التخاطبِ على تغليبِ المتوقعِ على الواقعِ على أنَّ فيه مراعاةَ الفواصلِ وقولُه تعالى
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} حكايةٌ لما سيقالُ لهُمْ يومئذٍ من جهته تعالى بطريقِ التوبيخ والتقريح تقريراً لجوابِ الجلودِ أي ما كنتم تسترون في الدُّنيا عند مباشرتِكم الفواحشَ مخافةَ أن تشهدَ عليكُم جوارِحُكُم بذلكَ كما كنتم تسترون من الناسِ مخافةَ الافتضاحِ عندهم بلْ كنتُم جاحدينَ بالبعثِ والجزاءِ رأساً {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائحِ المخفيةِ فلا يُظهرها في الآخرةِ ولذلكَ اجرتأتم على ما فعلتُم وفيهِ إيذانٌ بأنَّ شهادةَ الجوارحِ بإعلامِه تعالَى حينئذٍ لا بانها عالمةً بما شهدتْ به عند صدورِه عنهم عنِ ابنِ مسعُودٍ رضيَ الله عنه كنتُ مستتراً بأستارِ الكعبةِ فدخلَ ثلاثةُ نفرٍ ثقفيانِ وقرشيٌّ أو قرشيانِ وثقفيٌّ فقال أحدُهم أترونَ أنَّ الله يسمعُ ما نقولُ قال الآخرُ يسمعُ إنْ جهَرنا ولا يسمعُ أن

الصفحة 10