كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 8)

} 3 30
إليه في ذواتِهم ووجوداتِهم حدوثا وبقاء سائر أحوالِهم سؤالاً مستمراً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ فإنَّهم كافةً من حيثُ حقائقُهم الممكنةُ بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ وما يتفرَّع عليه من الكمالاتِ بالمرةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينَهم وبين العنايةِ الإلهية من العلاقةِ لم يشَمُّوا رائحةَ الوجودِ أصلاً فهم في كلِّ آنٍ مستمرونَ على الاستدعاءِ والسؤالِ وقد مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} من سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ {كُلَّ يَوْمٍ} أي كلَّ وقتٍ من الأوقاتِ {هُوَ في شأن} من الشؤن التي من جُمْلتها إعطاءُ ما سألُوا فإنَّه تعالى لا يزالُ ينشىءُ أشخاصاً ويغني آخرينَ ويأتِي بأحوالٍ ويذهبُ بأحوالٍ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغة وفي الحديثِ من شأنِه أنْ يغفرَ ذنباً ويفرّجَ كرباً ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرينَ قيل وفيه ردٌّ على اليهودِ حيثُ يقولونَ إنَّ الله لا يقضِي يومَ السبتِ شيئاً
{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع مشاهدتِكم لما ذُكِرَ من إحسانِه
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجردُ لحسابِكم وجزائِكم وذلكَ يومَ القيامة عند انتهاء شؤن الخلقِ المشارِ إليَها بقولِه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فلا يَبْقى حينئذٍ إلا شأنٌ واحدٌ هو الجزاءُ فعبرَ عنْهُ بالفراغِ لهم بطريقِ التمثيلِ وقيلَ هو مستعارٌ من قولِ المتهدِّدِ لصاحبهِ سأفرُغُ لكَ أي سأتجردُ للإيقاعِ بكَ من كلِّ ما يشغلنِي عنْهُ والمرادُ التوفرُ على النِّكايةِ فيهِ والانتقامِ منْهُ وقُرىءَ سَيفرُغُ مبنياً للفاعل وللمفعول قرىء سَنفرُغُ إليكُم أي سنقصدُ إليكُم {أَيُّهَا الثقلان} هما الإنسُ والجنُّ سُمِّيا بذلكَ لثقلِهما على الأرضِ أو لرزانةِ آرائِهما أو لأنَّهما مثقلان بالتكليف
{فبأي آلاء رَبّكُمَا} التي من جُمْلتِها التنبيهُ على ما سيلقَوْنه يومَ القيامةِ للتحذيرِ عمَّا يُؤدِّي إلى سوءِ الحسابِ {تكذبان} بأقوالكما وأعمالكما
{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} هما الثقلانِ خوطِبا باسمِ جنسِهما لزيادةِ التقريرِ ولأنَّ الجنَّ مشهورونَ بالقدرةِ على الأفاعيلِ الشاقةِ فخُوطبوا بما ينبىءُ عن ذلكَ لبيان أن قدرتَهُم لا تَفِي بما كُلِّفُوه {إِنِ استطعتم} إنْ قدرتُم عَلى {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض} أي أن تهربُوا من قضائِي وتخرجُوا من ملكوتِي ومن أقطارِ سمواتِي وأرضِي {فانفذوا} منها وخلِّصُوا أنفسَكُم من عقابِي {لاَ تنفذون} لا تقدرون على النفوذِ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوةٍ وقهرٍ وأنتُم من ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ رُويَ أن الملائكةَ تنزلُ فتحيطُ بالخلائق فإذا رآهم الجن والإنسن هربُوا فلا يأتونَ وجهاً

الصفحة 181