كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 8)

فصلت آية (51 53)
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} أي عنِ الشكرِ {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي ذهبَ بنفسه وتباعد بكليته تكبرا وتعظما والجانبُ مجازٌ عن النفسِ كما في قوله تعالى فِى جَنبِ الله ويجوزُ أن يرادَ بهِ عِطْفُه ويكونَ عبارةً عن الانحرافِ والازورارِ كما قالُوا ثَنَى عِطْفَةُ وتولَّى بركنِه {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} أي كثيرٍ مستعارٌ م مما لَه عَرْضٌ متسعٌ للإشعارِ بكثرتِه واستمرارِه وهو أبلغُ من الطويلُ إذ الطول أطولُ الامتدادينِ فإذا كان عرضُه كذلكَ فما ظنُّك بطولِه ولعلَّ هذا شأنُ بعضٍ غيرِ البعضِ الذي حُكِيَ عنه اليأسُ والقنوطُ أو شأنُ الكلِّ في بعضِ الأوقاتِ
{قل أرأيتم} أي أخبرونِي {إِن كَانَ} أي القرآنُ {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} مع تعاضد موجبات الإيمان بِهِ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي من أضلُّ منكُم فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهِم وتعليلاً لمزيدِ ضلالهم
{سنريهم آياتنا} الدالة على حقيقتِه وكونِه من عند الله {فِى الأفاق} هو ما أخبرهم به النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من الحوادثِ الآتيةِ وآثارِ النوازل الماضية ما يسر الله تعالى وله ولخلفائِه من الفتوحِ والظهورِ على آفاقِ الدنيا والاستيلاءِ على بلادِ المشارقِ والمغاربِ على وجةٍ خارقٍ للعادةِ {وَفِى أَنفُسِهِمْ} هو ما ظهرَ فيما بينَ أهلِ مكةَ وما حلَّ بهم قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآفاق أي منازلِ الأممِ الخاليةِ وآثارِهم وفي أنفسِهم يومُ بدرٍ وقال مجاهدٌ والحسنُ والسُدِّيُّ في الآفاقِ ما يفتحُ الله من القُرَى عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ والمسلمينَ وفي أنفسِهم فتحُ مكةَ وقيلَ في الآفاقِ أي في أقطار السمواتِ والأرضِ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ وما يترتبت عليها من الليلِ والنهارِ والأضواءِ والظلالِ والظلماتِ ومن النباتِ والأشجارِ والأنهارِ وفي أنفسهم من لطيفِ الصنعة وبديعِ الحكمةِ في تكوينِ الأجنةِ في ظلماتِ الأرحامِ وحدوثِ الأعضاءِ العجيبةِ والتركيباتِ الغريبةِ كقولِه تعالى {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} واعتذرَ بأنَّ معنَى السينِ مع أنَّ إراءةَ تلك الآياتِ قد حصلتْ قبلَ ذلكَ أنه تعالَى سيطلعُهم على تلك الآياتِ زماناً فزماناٍ ويزيدُهم وقوفاً على حقائِقِها يوماً فيوماً {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بذلكَ {أَنَّهُ الحق} أي القرآنُ أو الإسلامُ والتوحيدُ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ} استئنافٌ واردٌ لتوبيخهِم عَلى تررد في شأنِ القرآنِ وعنادِهم المُحوجِ إلى إراءةِ الآياتِ وعدمِ اكتفائِهم بإخبارِه تعالَى والهمزة للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أيْ ألَمْ يغنِ ولم يكفِ ربُّكَ والباءُ مزيدةٌ للتأكيد ولاَ تكادُ تزاد إلا معَ كَفَى وقولُه تعالى {أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} بدلٌ منهُ أيْ ألم يغنهم عن إراء الآياتِ الموعودةِ المبينةِ لحقيةِ القُرانِ ولم يكفهم في ذلكَ أنه تعالَى شهيدٌ على جميع الأشياء وقد أخبرَ بأنَّه منْ عندِه وقيلَ معناهُ أنَّ هَذا الموعودَ من إظهارِ آياتِ الله في الآفاقِ وفي أنفسِهم سيرونَهُ

الصفحة 19