كتاب تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (اسم الجزء: 8)

} 3 2 {
من عذابها الأليم وقد ذكرُ العذابِ فقيلَ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنَّه من نتائجِ الانهماكِ فيما فصل من أحوال الحياة الدُّنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} أي لمن اطمأنَّ بها ولم يجعلْها ذريعةً إلى الآخرةِ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ الدُّنيا متاعُ الغرورِ إنْ ألهتكَ عن طلب الآخرةِ فأمَّا إذَا دعتكَ إلى طلبِ رضوانِ الله تعالَى فنعمَ المتاعُ ونعمَ الوسيلةُ
{سَابِقُواْ} أي سارِعُوا مسارعةَ المسابقينَ لأقرانِهم في المضمار {إلى مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ {مّن رَّبّكُمْ} أي إلى موجباتِها من الأعمال الصَّالحةِ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} أي كعرضِهما جميعاً وإذا كانَ عرضُها كذلكَ فماظنك بطولِها وقيلَ المرادُ بالعرضِ البسطةُ وتقديمُ المغفرةِ على الجنة لتقدم التخليةِ على التحليةِ {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} فيه دليلٌ على أنَّ الجنةَ مخلوقةٌ بالفعلِ وأنَّ الإيمانَ وحدَهُ كافٍ في استحقاقها {ذلك} الذي وعدَ من المغفرةِ والجنةِ {فَضَّلَ الله} عطاؤُه {يُؤْتِيهُ} تفضلاً وإحساناً {مَن يَشَآء} إيتاءَهُ إيَّاهُ من غيرِ إيجابِ {والله ذُو الفضل العظيم} ولذلكَ يُؤتى مَن يشاءُ مثلَ ذلكَ الفضلِ الذي لا غايةَ وراءَه
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} كجدب ووعاهة في الزروع والثمارِ {وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ} كمرضٍ وآفةٍ {إِلاَّ فِى كتاب} أى إلا متكوبة مثبتةً في علمِ الله تعالى أو في اللَّوحِ {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي نخلقَ الأنفسَ أو المصائبَ أو الأرضَ {إِنَّ ذلك} أي إثباتَها في كتابٍ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه فيهِ عن العُدَّةِ والمدة
{لكي لا تَأْسَوْاْ} أي أخبرناكُم بذلكَ لئلاَّ تحزنُوا {على مَا فَاتَكُمْ} من نعمِ الدُّنيا {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي أعطاكُم الله تعالَى منها فإنَّ من علمَ أنَّ الكلَّ مقدرٌ يفوتُ ما قُدِّرَ فواتُه ويأتي ما قُدِّرَ إتيانُه لا محالةَ لا يعظُم جزعُه على ما فاتَ ولا فرحُه بما هُو آتٍ وقُرِىءَ بما أَتاكُم من الإتيانِ وفي القراءةِ الأُولى إشعارٌ بأنَّ فواتَ النعمِ يلحقُها إذا خُلِّيتْ وطباعَها وأمَّا حصولُها وبقاؤُها فلا بُدَّ لهما من سببٍ يُوجدها ويُبقيها وقُرِىءَ بما أُوتيتُم والمرادُ بهِ نفيُ الأَسَى المانعِ عن التسليم لأمر الله تعالى والفرحِ الموجب للبطر ولاختيال ولذلكَ عقبَ بقولِه تعالى {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فإنَّ من فرحَ بالحظوظ الدنيويةِ وعظُمتْ في نفسه اختالَ وافتخَر بها لا محالةَ وفي تخصيص التذييلِ بالنَّهي عن الفرح المذكورِ إيذانٌ بأنَّه أقبحُ من الأَسَى

الصفحة 211