كتاب التفسير الوسيط لطنطاوي (اسم الجزء: 8)

والمعنى: ونقول لمنكري البعث والحساب بعد عرضهم علينا على سبيل التوبيخ والتأنيب:
لقد جئتمونا- أيها المكذبون- مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا إياكم أول مرة. أى حفاة عراة لا مال معكم ولا ولد.
وعبر- سبحانه- بالماضي في قوله: قَدْ جِئْتُمُونا..
لتحقق الوقوع وتنزيله منزلة الواقع بالفعل.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بالانتقال من توبيخهم هذا إلى توبيخ أشد وأقسى فقال:
ْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.
أى: بل زعمتم أيها المكذبون بالبعث- أن لن نجعل لكم زمانا أو مكانا نجازيكم فيه على أعمالكم، وأنكرتم إنكارا مصحوبا بقسم أننا لا نبعث من يموت.
قال- تعالى-: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «2» .
ثم صور- سبحانه- أحوال المجرمين عند ما يرون مصيرهم السيئ فقال- تعالى-:
وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها.
والمراد بالكتاب: جنسه، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا.
أى: وأحضرت صحائف أعمال العباد، ووضعت في ميزانهم «فترى» - أيها المخاطب- «المجرمين» كافة، مشفقين، خائفين، مما فيه من جرائم وذنوب «ويقولون» على سبيل التفجع والتحسر عند معاينتهم لثقل ميزان سيئاتهم، وخفة ميزان حسناتهم.
«يا ويلتنا» . والويلة: الهلاك وحلول الشر والقبح والحسرة، وهو- أى لفظ الويلة-: مصدر لا فعل له من لفظه.
وهذا النداء على التشبيه بشخص يطلب إقباله.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 94.
(2) سورة النحل الآية 38.

الصفحة 530