كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 8)

يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس كافرا، وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح» .
وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول: لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك
بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم بوجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا لكان أظهر
إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما
صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله»
فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز أنه عليه الصلاة والسلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى، ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق والله تعالى أعلم بصحة الأحاديث، وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه الله تعالى، وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعنهم في القرآن ظاهر، وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة والسلام فلما بعث كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ إلخ، أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر، وإما إن كان غيرهم فللمقايسة، وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم إبليس عليه اللعنة واتبعوه إتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالوا إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر، وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لإبليس في أن كلّا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ تحية وتكريما له عليه السلام، وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم لله تعالى فَسَجَدُوا من غير تلعثم امتثالا لأمره تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين وكان معدودا في عدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف، فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه الله سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الإنكار والتعجب أَسْجُدُ وقد خلقتني من نار لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً نصب على نزع الخافض أي من طين كما صرح به في آية أخرى، وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خَلَقْتَ فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به، والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أَأَسْجُدُ على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين، قال في الكشف: وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الإنكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة، وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا، وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك، وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال: لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده.
قالَ أي إبليس، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أَرَأَيْتَكَ هذَا

الصفحة 103